نوستالجيا: جيل “السداري”

الدار البيضاء اليوم  -

نوستالجيا جيل “السداري”

بقلم : جمال بودومة

الإنسان نصاب بطبعه. عندما كنا صغارا، كنا نحول قطعة العشرين سنتيما إلى درهم، ونحتال بها على بائع الحلويات… من يتذكر هذه الخدعة؟ “الربعادريال” الصفراء تتحول بحيلة شيطانية إلى “عشرين ريال”. نلفّ الشقفة التافهة بكاغيط فضي، يشبه ورق الألومنيوم، نحصل عليه من علب السجائر الفارغة، نقصّه بعناية ونغلف القطعة النحاسية بإحكام. لم يكن الحصول على هذا الورق السحري عسيرا، ما كان صعبا هو العثور على تاجر مغفل تنطلي عليه الحيلة. كانت علب “ماركيز” مرمية في كل مكان. كانت الباكية الخضراء الباهتة تعد تبغا فاخرا في تلك السنوات الساذجة، أو هكذا كنا نعتقد، قبل أن ينتشر حولها اللغط وتنقسم إلى نوعين: الـPar والـPour ونكتشف تدريجيا أنها على قدر لا يستهان به من الحقارة.

كان المغرب السفلي يحرق صدره بـ “كازا سبور”. من يصعد قليلا في السلم، يشتري “أولمبيك الحمراء” أو شقيقتها الزرقاء، رغم أنها مجرد “كازا سبور” مع “الفيلتر”، وإذا كانت له نزعة وطنية أو كان ممن يحنون إلى “المسيرة الخضراء” يدخن “الداخلة”، فيما كان “الانتحاريون” يدمنون على “فافوريت”، وهي سيجارة إذا تمكنت من استنشاق دخانها دون أن يحدث لك شيء، اعرف أن بإمكانك العيش في قادوس للواد الحار مرتاح البال.

هذا فيما يتعلق بالرئة، أما معدة المغاربة في تلك السنوات العجاف فكانت مملوءة عن آخرها بالخبز والشاي، مع كميات محترمة من العدس واللوبيا والفول، بالإضافة إلى الحريرة والكسكس ومختلف أنواع المعجنات، التي كان بعضها يحمل أسماء أدبية من قبيل “الشعرية”، رغم أن لا علاقة  لها بأرسطو، و”لسان الطير” الذي يحيل على العطار المجاور للبيت أكثر مما يحيل على فريد الدين العطار….

حين ظهرت علبة “الجلبانة نورا”، باتت الأسر تفضلها على البازلاء الطازجة، فقط لأن ثمنها أغلى، حتى الزيتون كانت تشتري المصبر منه، رغم مذاقه السيئ، وحين يزورها أحد الضيوف تكون الوجبة لحما أو دجاجا مع “الجلبانة نورا” والزيتون المعلب. قمة “البريستيج”. الضيوف في ذلك الزمن العجيب كانوا يأتون على حين غرة. يطرقون الباب دون موعد، ويدقون الأوتاد. لحسن الحظ أن المغاربة أبدعوا أحد الاختراعات الأكثر  عبقرية: “السداري”… فريق كرة قدم يزورك ليلا ويستطيع أن ينام في البيت دون مشكلة. في الشتاء تتعقد الأمور، لأن الضيوف يحتاجون إلى أغطية. من أين ستأتي بعشر “بطانيات” إضافية كي توفر الدفء للزوار الكرام؟ رغم ذلك كان الناس سعداء، لا يبدون امتعاضا من هذه الزيارات، ويجدون الحلول دائماً كي يبقوا مجتمعين، “يقرقبون الناب” حتى الساعات الأولى من الصباح.

“السداري” رمز لبلد يحب المؤانسة ويخشى الفراغ. يأتي النجار ويأخذ المقاييس كي يملأ الفراغ بما يناسب، إذا بقيت مساحة صغيرة بين جدارين، يأخذ قياسها أيضا كي يحشوها بـ”سداري” صغير. المنزل المغربي، مثل الطبيعة، لا يقبل الفراغ “السداري” رمز وطني حتى النخاع، لا يضاهيه إلا “البراد”. رغم أن المغرب تغير كثيرا، لكن “السداري” مازال سيد الصالون و”البراد” ملك المائدة. في “استبانة” يشرح لنا عبدالله العروي كيف تشكلت الهوية المغربية والنزعة الوطنية وكيف تطور اللباس وتغيرت القيم، ونتعرف على شخصية “المغربي”، من خلال أسئلة دقيقة يطرحها المفكر على نفسه أو يطرحها عليه صحافي مجهول. مع “البراد” لا نحتاج إلى أسئلة، الأجوبة كلها فوق الصينية. لو تجسد المغربي آنية لكان “براد” شاي، تأمله جيدا: البطن منتفخ، الرأس فارغ، المؤخرة على النار، والذيل نحو السماء… إنها صورة أدق من تلك التي رسمها العروي، مع الاعتذار لصاحب “مجمل تاريخ المغرب”‘عن هذه المزحة الثقيلة، و”كلها كيعمر على قياس برادو”.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نوستالجيا جيل “السداري” نوستالجيا جيل “السداري”



GMT 08:07 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أخبار مهمة أمام القارئ

GMT 08:04 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الإمارات والأردن.. توافق لأمن المنطقة

GMT 08:01 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أسوأ عقاب أوروبى لأردوغان

GMT 07:59 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لهذا تقود أمريكا العالم!

GMT 07:57 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كسر الحلقة المقفلة في اليمن

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca