دلالات العلم الوطني في التظاهرات المضادّة لحقوق الإنسان

الدار البيضاء اليوم  -

دلالات العلم الوطني في التظاهرات المضادّة لحقوق الإنسان

احمد عصيد

أصبح مشهدا مألوفا لدى القوى الديمقراطية ومناضلي حقوق الإنسان أن يروا أمامهم في الشارع عند كل تظاهرة مجموعة صغيرة من الشباب ينطون شاهرين العلم الوطني في وجه الحقوقيين مردّدين النشيد الوطني، ويعرف الجميع أن حضور هؤلاء هو من أجل التشويش على النضال الحقوقي الديمقراطي، لكن المفارقة أن أنهم يحملون العلم الوطني للتعبير عن رأيهم المضاد لمواقف الحقوقيين، وحتى عندما تضطهد السلطة المحتجين والمتظاهرين فإن العلم الوطني ينتصب أمامهم على الدوام، مما يجعلنا نقف وقفة تحليلية أمام هذا المشهد بغرض فهم أبعاده ودلالاته.

يجسد العلم الوطني من الناحية النظرية مفهوم الدولة ـ الأمة، ويرمز إلى الإطار الجامع لكل المواطنين الذين يحملون الجنسية المغربية وينتمون إلى الأرض وإلى الإطار الجيو ـ سياسي المغربي، ويعدّ حمل العلم رمزا للارتباط بالوطن وللتعبير عن التشبث بوحدته واستقراره، وعن الرغبة في الإسهام في تطويره وتنميته ليبلغ غاية المجد والتقدم.

في الحالة التي أمامنا شباب يحملون العلم لمعاكسة المتظاهرين الذين يهدفون إلى إصلاح أعطاب الدولة وتدارك أوضاع تخلفها، وهم يفعلون بتحريض من الجهات المعروفة، التي جعلت من العلم الوطني رمزا للسلطة والغلبة والتحكم، وليس رمزا للوطن.

لقد عملت السلطة على مدى عقود على احتكار معنى الوطنية، وعلى تملك ألوان العلم والتماهي معها، لدرجة أصبح فيها العلم يعني لدى الكثير من المغاربة قوى الأمن أو الحكام، أكثر مما يعني الوطن والدولة، وهكذا أصبحت الوطنية في منظور السلطة هي الخضوع وإعلان الولاء للحكام، وأصبحت ألوان العلم تعني القبول بما هو موجود على أنه أمر طبيعي وواقع بديهي، وإن لم يكن واقعا إنسانيا أو مشرفا لا للسلطة ولا للمواطنين.

ولربما كانت لحظة كرة القدم لحظة نشازا، حيث يحمل فيها المشجعون للفريق الوطني علم المغرب اعتزازا ومن باب التشجيع لفريقهم الذي يمثل البلد، ولهذا يضطر الحكام لاستغلال اللحظة نفسها من أجل احتواء المشاعر الوطنية الصادقة لصالح السلطة، فتصبح الكرة ملعوبة لصالح الحاكم لا لصالح البلد، وتصبح لحظة تخدير مقصودة لذاتها من أجل التنفيس عن الغمة السائدة.

في الدول العريقة في الديمقراطية، يرمز العلم لتاريخ طويل من التضحيات، في الوقت الذي يرتبط فيه علمنا الوطني بحيثيات مغايرة تماما، فهو علم وضعه المقيم العام الفرنسي ـ بجانب موسيقى النشيد الوطني ـ وكان المقيم العام الماريشال ليوطي ممثل سلطة "المخزن" في مواجهة القبائل المتمردة في عهد الحماية، والتي تكفلت الجيوش الفرنسية بـ"تهدئتها"، ثم أصبح علما للسلطة بعد الاستقلال، ونظرا للتعثر الذي عرفته التجارب الديمقراطية في المغرب، فإن السلطة لم تنجح بعد في جعل العلم الوطني يرمز للكيان المغربي الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، حيث تتدخل يد السلطة دائما لتفسد تلك المشاعر النبيلة التي تكنها قلوب الناس لوطنهم.

يهدف الحقوقيون المغاربة ـ الذين يحملون الوطن في قلوبهم ـ إلى جعل بلدهم يرقى إلى مصاف الدول التي تنعم باستقرار طبيعي منشأه الترسيخ الديمقراطي ودولة القانون، غير أن السلطة تنزعج على الدوام من فاعلين يصرّون على كشف حقائق الواقع عوض التعمية عنه بالعبارات الخشبية المعهودة، فلا تجد من ذريعة إلا إخراجهم من دائرة الوطنية، وجعلهم أشبه بالغرباء في بلدهم، ولهذا دلالته أيضا، فالسلطة تعتبر البلد بلدها لا بلد أبنائه، وتعتبر العلم علمها والنشيد نشيدها، فيصبح من يعمل على الحفاظ على أوضاع التخلف "وطنيا" يحمل العلم ويتغنى بالنشيد، ومن يسعى إلى تطوير الواقع أو إصلاحه متآمرا على البلد مسيئا لصورته في العالم، ولسنا ندري ما جدوى أن تكون صورة البلد جميلة في الخارج، إذا لم تكن كذلك في الداخل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دلالات العلم الوطني في التظاهرات المضادّة لحقوق الإنسان دلالات العلم الوطني في التظاهرات المضادّة لحقوق الإنسان



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca