بعد طيّ صفحة بوتفليقة…

الدار البيضاء اليوم  -

بعد طيّ صفحة بوتفليقة…

بقلم - خيرالله خيرالله

لم يعد الكلام عن بوتفليقة يجدي. ماذا بعد بوتفليقة؟ هذا هو السؤال الكبير. يشمل هذا السؤال في طبيعة الحال الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العسكرية التي اعتادت تحديد من هو الرئيس الجزائري.
طوت الجزائر صفحة عبدالعزيز بوتفليقة، بما له وما عليه. ما الذي تحمله مرحلة ما بعد بوتفليقة بعدما تبيّن أنّه يستحيل إجبار الجزائريين على القبول ببوتفليقة رئيسا ولو لسنة واحدة، اللهمّ إلا إذا كان مطلوبا التمهيد لثورة شعبية، ليس معروفا من سيستغلّها، تتخلّلها مرحلة جديدة من عدم الاستقرار شبيهة بتلك التي سادت بين العامين 1988 و1998. سمّيت تلك المرحلة “سنوات الجمر” أو “سنوات الرماد”.

المشكلة، كما يراها الجزائريون، هي مشكلة الجزائر في نهاية المطاف. الأكيد أنّها ليست مشكلة المحيطين ببوتفليقة الذين يحاولون إيجاد من يضمن عدم ملاحقتهم قانونيا لدى خروجهم من قصر الرئاسة. لا ينسى هؤلاء أن بوتفليقة نفسه تعرّض لملاحقة قانونية بعد وفاة هواري بومدين وخسارته السباق على الرئاسة لمصلحة الشاذلي بن جديد. وجد خصوم الرئيس الجزائري الحالي أسبابا لملاحقته في قضية اختلاسات في وزارة الخارجية التي كان مسؤولا عنها بين 1965 و1978. قد يكون ذلك صحيحا، كما قد لا يكون كذلك. لكنّ بوتفليقة اضطر وقتذاك إلى العيش منفيّا خارج الجزائر وأمضى فترة طويلة في دولة الإمارات برعاية الشيخ زايد، رحمه الله، وضيافته.

هل من أمل بجزائر أفضل، بعد انتهاء عهد بوتفليقة، أم سيسعى النظام إلى تكرار نفسه عبر البحث عن مسكّنات بدل محاولة بناء مؤسسات لدولة حديثة تهتمّ حقيقة بمشاكل الجزائر والجزائريين. المسألة ليست مسألة تغيير رئيس، بمقدار ما أنّها مسألة تغيير ذهنية نظام في حال هروب مستمرّة إلى خارج الجزائر بحثا عن غطاء لممارساته في الداخل.

قبل كلّ شيء، كان اختيار العسكر لعبدالعزيز بوتفليقة في العام 1998، تمهيدا لانتخابه رئيسا في 1999 بمثابة بحث عن مسكّنات. لا شكّ أن كبار الضباط، في مقدمهم محمد مدين (توفيق) والعربي بلخير، الذي كان متقاعدا، وغيرهما اتفقوا في العام 1998على إعادة بوتفليقة إلى الواجهة بعدما عارضوا كلّ الأسماء الأخرى التي كان يمكن أن تتولّى موقع رئيس الجمهورية.

وجد هؤلاء أن بوتفليقة هو الأنسب نظرا إلى أنّه يمتلك خبرة طويلة في السياسة من جهة، ولديه من جهة أخرى شرعيّة مستمدة من كونه لعب دورا في الكفاح المسلّح في مرحلة ما قبل الاستقلال.

بعد عشر سنوات من الحروب التي خاضها الجيش من أجل القضاء على الإرهاب، صارت هناك حاجة إلى سياسي محنّك يشكل غطاء لمصالحة وطنية. نجح عبدالعزيز بوتفليقة في مهمّته نجاحا كبيرا. ساعدته المؤسسة العسكرية التي وضعت في أولوياتها “حماية الجمهورية” ومنع استيلاء الإسلاميين على السلطة. لم يمنع ذلك رئيس الجمهورية الجديد من تصفية حسابات قديمة مع المؤسسة العسكرية التي حالت دون وصوله إلى الرئاسة مطلع العام 1979 خلفا لهواري بومدين. بدأ بالتخلص من محمد العماري ثم من “توفيق” الذي كان يصعب حتّى التفكير بأنّ الإمكان المسّ به. كان الجنرال محمد مدين، أي “توفيق” الرجل القويّ في البلد. كان رجلا غامضا يكره الأضواء، لا صورة له باستثناء صورة واحدة ظهر فيها مع ضباط آخرين. كانت لديه كلّ الملفّات التي يستطيع فتحها متى يشاء وابتزاز أصحابها من مدنيين وعسكريين آخرين.

كان التخلّص من العماري ثم من “توفيق” في العام 2015 نقطة تحوّل جعلت المحيطين ببوتفليقة يسمحون لأنفسهم بعمل ما يشاؤون، بما في ذلك إعادة الاعتبار إلى شخص مثل شكيب خليل وجّهت إليه اتهامات باختلاس مبالغ كبيرة عندما كان وزيرا للنفط ومسؤولا عن شركة “سوناطراك” التي تسوق النفط والغاز الجزائريين. بقدرة قادر لم يعد شكيب خليل متهما، بل عاد إلى لعب دور على الصعيدين الداخلي والخارجي مستفيدا من العلاقات الطيبة التي ربطته بالإدارات الأميركية.

عمل عبدالعزيز بوتفليقة الكثير للجزائر، لكنّه لم ينجح في تغيير ما يجب تغييره، أي جعل النظام في الجزائر يهتمّ بالجزائريين بدل التلهي بمعارك خارجية من أجل إثبات أن للجزائر دورا إقليميا، وأنّها القوّة المهيمنة في منطقة شمال أفريقيا. بقي بوتفليقة أسير العقد الجزائرية التي تعني أوّل ما تعني العجز عن تطوير اقتصاد البلد والحياة السياسية فيه. اعتقد أن في استطاعته شراء السلم الاجتماعي عن طريق رشوة أبناء الشعب بأموال النفط والغاز. مثله مثل النظام الإيراني، لم يستطع استغلال الجزائر وثرواتها. بقي الاقتصاد الجزائري يعتمد على دخل النفط والغاز بدل أن يكون اقتصادا متنوعا. لم يستطع تغيير نظام التعليم الذي ينتج أشباه أميين ومتطرفين إسلاميين، كما لم يستطع تطوير الزراعة أو السياحة.

لعلّ العقدة الأهمّ التي عانى منها بوتفليقة والمحيطون به هي عقدة المغرب التي حالت دون إعادة فتح الحدود البرّية بين البلدين، وهي حدود مغلقة منذ العام 1994، نعم منذ ربع قرن!

لم تستطع الجزائر في عهد بوتفليقة الاستجابة إلى أي مبادرة مغربية في شأن تطبيع العلاقات بين البلدين تمهيدا للتعاون في مجالات كثيرة. بقي بوتفليقة، ثمّ الذين حوله، يمارسون سياسة الابتزاز في حقّ المغرب والتي اعتمدت على أداة اسمها جبهة “بوليساريو”. بكلام أوضح، لم يتمكن بوتفليقة في أي وقت من تجاهل أنّه من مواليد مدينة وجدة المغربية، وأنّ عليه المزايدة على الآخرين كي لا يقال إنّه وفيّ، في الحدّ الأدنى من الوفاء، للأرض التي احتضنته حتّى بلغ السابعة عشرة من العمر.

لم يعد الكلام عن بوتفليقة يجدي. ماذا بعد بوتفليقة؟ هذا هو السؤال الكبير. يشمل هذا السؤال في طبيعة الحال الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العسكرية التي اعتادت تحديد من هو الرئيس الجزائري.

مارست المؤسسة العسكرية دورها في اختيار خليفة بوتفليقة أم لم تمارسه، ليست تلك المسألة. المسألة هل يحصل تغيير في ذهنية المتحكمين بالجزائر في هذه المرحلة. ما تبدو الجزائر في حاجة إليه أكثر من أي وقت هو تفادي انفجار شعبي كبير. لا يثير مثل هذا الانفجار قلقا على الجزائر وحدها وإنّما على دول الجوار أيضا، بما في ذلك المغرب، الذي يهمّه الاستقرار في الجزائر إلى أبعد حدود. فالاستقرار في الجزائر يساعد في إبقاء الوضع الإقليمي مضبوطا في مرحلة ليس معروفا ما الذي ستؤول إليه الأوضاع في ليبيا، إضافة إلى أن تونس تبدو مقبلة على تطورات مقلقة.

انتهى عهد بوتفليقة. من الصعب تصوّر انتخابه رئيسا مرّة أخرى، إلا إذا كان أفراد الحلقة المحيطة به يعتقدون أن في الإمكان إحياء الأموات. ما تبدو الجزائر في حاجة إليه يتجاوز مصير رجل محدّد قدّم الكثير لبلده وعجز عن التخلّص من العقد الشخصية التي تحكّمت به.

ما تبدو الجزائر في حاجة إليه يتمثل في تغيير في ذهنية نظام يرفض الاعتراف أن مشكلته مع الجزائريين أوّلا، وان البحث عن دور إقليمي للجزائر أقرب إلى سراب من أيّ شيء آخر.

هل تتغيّر ذهنية النظام أم تكتفي الجزائر بالانتهاء من بوتفليقة مع ما يعنيه ذلك من تأجيل لانفجار كبير يبدو البلد في غنى عنه…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بعد طيّ صفحة بوتفليقة… بعد طيّ صفحة بوتفليقة…



GMT 11:31 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب جديدة للقارئ في معرض الشارقة الدولي

GMT 11:26 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

كتب أخرى للقارئ العربي

GMT 05:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

دسائس البلاط

GMT 05:01 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اللبنانيون يأملون.. لكن بخوف وحذر!

GMT 05:00 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

ثورة في لبنان في عهد "حزب الله"

GMT 18:00 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تبحث أمراً مالياً وتركز على بعض الاستثمارات

GMT 08:31 2018 الخميس ,20 أيلول / سبتمبر

سعر الدرهم المغربى مقابل اليورو الخميس

GMT 13:15 2015 الأحد ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روماو يحدد قائمة لاعبي "الجيش" لمواجهة "المغرب الفاسي"

GMT 03:32 2017 الجمعة ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة توضح دور الخوف في عملية انقراض الحيوانات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca