بنكيران وسيطايل والحداثيون الجدد

الدار البيضاء اليوم  -

بنكيران وسيطايل والحداثيون الجدد

توفيق بو عشرين

قال الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت: «قلب رجل الدولة يجب أن يكون في رأسه» (le cœur d’un homme d’état doit être dans sa tête)..
تذكرت هذه المقولة وأنا أتابع ردود فعل بعض النساء المغربيات حول تصريحات رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، في البرلمان حول النساء العاملات خارج بيوتهن، وقلت في نفسي إن تلقائية بنكيران وصراحته في التعبير عن أفكاره لا تمر بسلام دائماً، وإن الرجل مطالب بالتفكير في مقولة نابليون، وأن ينقل قلبه إلى رأسه، وأن يضع أمام عينيه دائماً أنه رئيس حكومة كل المغاربة، المحافظين ونصف المحافظين والحداثيين ونصف الحداثيين، وأن تصوراته وأفكاره وانطباعاته حول الموضوعات الحساسة من الأفضل أن يتركها لكتاب مذكراته، وأن ينشغل الآن بالسياسة والبرامج والأرقام خاصة في ظرف صعب وفي أجواء مضطربة تماماً.
ماذا قال بنكيران فأغضب بعض الجمعيات النسائية؟ قال: «حين تخرج النساء للعمل، ينطفئ الضوء، خصوصا ضوء المطبخ.. وحين تعود الثريات متأخرات بعد يوم عمل شاق، يجدن الضوء لايزال منطفئا، والرجال في العتمة ممددين على الأريكة في انتظار الضوء».
هذا كلام يمكن قراءته من زوايا عدة وبتأويلات كثيرة.. قد يرى فيه البعض تعاطفا من النساء العاملات اللواتي تجبرهن التقاليد الموروثة على أن يشتغلن في البيت وخارجه دون رحمة ولا شفقة، وقد يرى البعض في هذا الكلام نقدا لاذعا للرجال الذين لا يقومون بواجباتهم داخل المنزل ولا يتقاسمون أعباءه مع المرأة، وقد يرى فيه البعض الثالث دعوة مبطنة إلى بقاء النساء في المنزل وعدم الخروج إلى العمل حتى يبقى نور المطبخ مضاء والثريات بين أربعة جدران...
كل هذه القراءات قابلة للاشتغال، وأنا شخصيا أرى أن من حق سيطايل والعسولي وبنيس والوديع ومجاهد والكحيل... أن يخرجوا إلى الشارع للتظاهر ضد تصريحات بنكيران باعتبارها تروج نمطا محافظا للأسرة والمرأة. لكن ما يجب ألا ننساه أن بنكيران لم يقل يوما إنه حداثي، وإنه رجل يبشر بقيم الغرب في موضوع الأسرة والمرأة تحديدا. بنكيران، كما الأغلبية الساحقة من المغاربة، رجل محافظ، والذين صوتوا له في آخر انتخابات كانوا يعرفون هذا، وهو لم يخدعهم. كان دائماً يرى أن المساواة لا تعني أن تصير للمرأة الوضعية نفسها التي للرجل والأدوار ذاتها. هو وحزبه يعتقدان أن هذا منظور غربي لا يناسب المجتمعات الإسلامية. الآن، هل الحكومة تريد أن تهدد مكتسبات النساء، وأن ترجعهن إلى بيوتهن؟ لا أعتقد ذلك، وحتى إن فكرت في الأمر فهي عاجزة عن القيام به.
 حادثة السير هذه التي وقعت في البرلمان يجب أن تفتح أعيننا على نقاش غائب في مجتمعنا حول حقيقة تعددية المشاريع المجتمعية الموجودة داخله، وحول الكثير من الخلط والتناقض والنفاق الموجود لدى السياسيين وبعض الفاعلين المدنيين الذين يروجون المبادئ ونقيضها.. مرة يصبحون حداثيين حتى النخاع، وأحيانا يصيرون تقليديين إلى أبعد حد.. مرة هم ديمقراطيون، ومرة لا يرون بأسا في التحالف مع الاستبداد...
سأضرب مثلا هنا بالسيدة سميرة سيطايل، وهي كأي مواطنة مغربية خرجت ترفع شعارات مناهضة لبنكيران، وهذا حقها، وقالت للصحافة إنها تخشى على مصير ابنتها من كلام بنكيران عن المرأة، لأن رئيس الحكومة يروج منظورا ظلاميا لنصف المجتمع، وهذا معناه أن السيدة سيطايل امرأة حداثية وعصرية وديمقراطية، وأن نموذجها في الحياة هو القيم الليبرالية وخصائص المجتمع المفتوح، لكن هذه السيدة نفسها هي التي تدير قناة عمومية ممولة من أموال دافعي الضرائب على طريقة القنوات الدعائية المتخلفة.. قناة مازالت تشتغل بلائحة سوداء من الممنوعين من المرور على شاشتها، ومازالت تشتغل بالأجندة السياسية للدولة العميقة، ولا تؤمن بحرية التعبير والرأي، وحق الجمهور في أن يعرف ما يدور حوله بمهنية واستقلالية.
هل أحتاج إلى أن أذكر بأن السيدة سيطايل هي التي أعدت، أو بالأحرى فبركت، قصة خبرية تقول إن مجلة «لوجورنال» نشرت صورا مسيئة إلى النبي (ص)، وأن تظاهرة أمام مقر الجريدة خرجت للتنديد بمديرها آنذاك، بوبكر الجامعي، لنكتشف بعد ذلك أن المتظاهرين هم عمال الإنعاش الذين جاء بهم القياد والمقدمون، وأن «لوجورنال» لم تنشر صورا لنبي الإسلام، وأن السيدة سيطايل عرّضت حياة صحافي للخطر لأنها بثت تقريرا مخدوما يحرض الجمهور عليه، وبقي زميلنا أسابيع في منزله هو وعائلته لا يستطيع الخروج إلى الشارع خوفا على حياته... هل هذا سلوك امرأة حداثية، ديمقراطية، عصرية تخشى محافظة بنكيران؟!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بنكيران وسيطايل والحداثيون الجدد بنكيران وسيطايل والحداثيون الجدد



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca