المرض هاهو.. والدواء أين هو؟

الدار البيضاء اليوم  -

المرض هاهو والدواء أين هو

توفيق بو عشرين

دعا الملك محمد السادس المجلس الأعلى للتربية والتكوين إلى إعادة النظر في مضمون ومنظور إصلاح التعليم، والانكباب على القضايا الجوهرية، وفي مقدمتها إشكالية لغة التدريس واعتماد البرامج والمناهج الملائمة لمتطلبات التنمية وسوق الشغل…

كثيرة هي الخطابات الملكية التي تحدثت عن ضرورة واستعجالية إصلاح نظام التربية والتعليم، وعلى مدار 15 سنة ومحمد السادس يلفت أنظار الحكومات المتعاقبة إلى ضرورة إنقاذ المدرسة وربطها بسوق الشغل، وفتح آفاق جديدة أمام الشباب المغربي، لكن دون فائدة.. لا يوجد حزب في المغرب يدعي أن له علاجا لأمراض هذه المدرسة ولا حتى خطة لإسعافها، بما في ذلك الحزب الذي يقود الحكومة الآن. هذا لا يعني أن الآخرين ممن يوصفون بالمحيط الملكي لهم خطة أو برنامج أو وصفة. لقد أشرف المستشار الراحل، مزيان بلفقيه، على وضع ميثاق للتربية والتكوين بمعية خبراء وسياسيين، ورصدت الدولة المليارات لهذا الميثاق، وأعطته مهلة عشر سنوات لتحقيق أهدافه، وجعلت من التعليم الأولوية الوطنية الثانية بعد الدفاع عن الصحراء، ثم تعاقب على وزارة التعليم اليمين واليسار والسياسي والتقنوقراطي، وفي الأخير اكتشفنا أن الميثاق فشل في إنقاذ التعليم، كما أن البرنامج الاستعجالي هو نفسه أصبح يحتاج إلى برنامج استعجالي لإنقاذه من المشاكل التي غرق فيها…

التعليم ورش معقد وخطير، ويتطلب إصلاحه الكثير من الذكاء والخبرة في البحث عن حلول للمشاكل القديمة والجديدة، والكثير من الإرادة السياسية للتصدي لمراكز القوى والنقابات المتنفذة في القطاع، التي لا تساير كلها نغمة الإصلاح، وهي مستعدة لمناهضة أي خطة جديدة لأن لها مكتسبات من زمن الفساد تدافع عنها، ثم إن النهوض بالمدرسة ونظام التكوين يحتاج إلى الكثير من المال الذي يعتبر هو عصب الحرب في هذه المعركة، ثم إن إصلاح نظام التربية والتكوين يحتاج إلى جهوية موسعة، وإلى حكومات محلية تحل المشاكل والقضايا والأسئلة جهويا وليس في المركز…

هل يوجد شيء من هذه المقومات اليوم في المغرب؟ أزعم أن الجواب بالنفي هو الصحيح. لا يوجد مال كاف لإصلاح نظام التربية والتكوين في بلاد نصف مداخيلها الضريبية يذهب إلى أجور الموظفين (كتلة أجور الموظفين كل سنة حوالي 140 مليار درهم، ومداخيل الدولة من الضريبة حوالي 240 إلى 260 مليار درهم). لا توجد جهوية موسعة ولا ضيقة يمكن أن تشكل الإطار الإداري والسياسي والبيداغوجي لحل مشاكل التعليم في كل جهة وحسب الظروف والأحوال.. القرار مازال مركزيا في الرباط، ولا أحد يستطيع أن يغير تقاليد الدولة المركزية في المملكة الشريفة، والكلفة ما نراه حاليا من مآسٍ تتعرض لها المدرسة العمومية، ويدفع ثمنها أبناء الفقراء. الإرادة السياسية موجودة لكنها إرادة هشة وسطحية، وبمجرد أن تجابه قوة مراكز النفوذ في الإدارة وفي النقابات تتراجع إلى الخلف، وتنشغل بالبحث عن توافقات هشة، مثل ذلك الذي يعالج مرض السرطان بحبات الأسبرين…

لنأخذ كنموذج لغة التدريس في التعليم العمومي اليوم.. الواقع يقول إن معظم أبنائنا لا يحسنون أية لغة بعد أن يكملوا سنوات التدريس، سواء أخذوا الشواهد أم لا! والواقع يقول إن لغة العلم الحديث والتكنولوجيات الجديدة في العالم هي الإنجليزية، وهذه اللغة تعطي فرصا أكبر للاطلاع على الإنتاج العملي الحديث والمتطور في كل دول العالم، حتى تلك التي تعتز بلغتها الوطنية (في عاصمة تركيا أنقرة جامعة تضم 72 ألف طالب، تدرس باللغة الإنجليزية 90 في المائة من المواد العلمية وغير العلمية).

قبل 12 سنة كنت عائدا من رحلة إلى أمريكا عبر أوروبا، وعندما وصلت إلى مطار فرانكفورت في ألمانيا قادما من نيويورك، صعد إلى جانبي أستاذ في معهد الزراعة والبيطرة بالرباط، كان قادما من الصين حيث حضر مؤتمرا علميا كبيرا هناك. وجدت الأستاذ سيئ المزاج، وبمجرد أن فتحت له باب الحديث حتى بدأ يحكي القصة التالية التي لم أنسَها إلى اليوم. يقول: «شاركت في مؤتمر علمي عالمي في بكين حول الفلاحة، وكنت الوحيد الذي تدخل بالفرنسية التي لم يفهمها سوى القادمين من فرنسا وبلجيكا وبعض الأفارقة، والذي أحزنني أكثر أن الترجمة لم تكن هناك، والذي أغاظني أن الفرنسيين الذين كانوا مشاركين في المؤتمر كلهم قدموا أوراقهم ومداخلاتهم بالإنجليزية، وبقيت وحدي أتحدث بلغة لا يفهما جل من في القاعة. الحقيقة أن الفرنسيين حشاوها لينا، لم ندرس سوى لغتهم في حين توجهوا هم إلى تعلم وإتقان الإنجليزية».

إذا خيرت اليوم أغلبية الأسر بين تدريس أبنائها بالعربية أو الفرنسية أو الإنجليزية، فإنها ستختار الأخيرة ليس لأنها تتنكر لهويتها العربية الأمازيغية، وليس لأنها تكره الفرنسية التي نعتبرها في المغرب غنيمة حرب وأداة كانت ضرورية في وقت ما لتحديث جزء من المغرب وربطه بالخارج، قبل أن تتحول الفرنسية إلى عقيدة فرانكفونية أصبحت تحجبنا عن العالم عوض أن تشكل قنطرة نحو الآخر…

وجود لغتين رسميتين في الدستور لا يعني الانغلاق على هاتين اللغتين أو اعتبار اللغات الأخرى منافسة لهما. علينا أن نترك للناس حرية اختيار اللغات التي يريدون أن يدرسوا بها الثقافة والفن والشعر والأدب والتاريخ، أما العلوم البحتة والتكنولوجيا والاقتصاد والإدارة والإعلام والمعلومات… فهذه لها لغة عالمية واحدة الآن هي الإنجليزية، وعلينا أن نتحول تدريجيا إليها، والتدريس بها منذ سنوات الإعدادي بعد أن يكون الطفل قد درس بلغته الأم (العربية أو الأمازيغية) طيلة السنوات الأولى للتعليم…

هذا لا يعني التفريط في الهوية واللغة والدين والتاريخ.. أبدا هذه مقومات موجودة في الحياة اليومية وفي الثقافة الشعبية وفي المطبخ والتلفزة والإذاعة والجريدة والفيسبوك. إن شابا ناجحا في مساره الدراسي ومنفتحا على العالم وله مكانة في سوق العمل الوطني والدولي، شاب مؤهل لأن يتصالح مع تاريخه وحاضره، مع دينه وثقافته أكثر من شاب محبط يائس عاطل شبه أمي، لا أفق أمامه سوى الانضمام إلى مغامري قوارب الموت أو جهاديي داعش

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المرض هاهو والدواء أين هو المرض هاهو والدواء أين هو



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 12:18 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 19:14 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

يبدأ الشهر بالتخلص من بعض الحساسيات والنعرات

GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 17:27 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:11 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 17:59 2019 الثلاثاء ,23 تموز / يوليو

تستاء من عدم تجاوب شخص تصبو إليه

GMT 11:31 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

منع جمهور الرجاء من رفع "تيفو" أمام الترجي

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة وصادمة في حادث قتل الطفلة "إخلاص" في ميضار

GMT 06:39 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"بيكوربونات الصودا" حل طبيعي للتخفيف من كابوس الشعر الدهني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca