الدولة تعطل الأحكام القضائية بالقانون المالي!

الدار البيضاء اليوم  -

الدولة تعطل الأحكام القضائية بالقانون المالي

توفيق بو عشرين

عوض أن تعطي الدولة المثال في تطبيق القانون واحترام مقتضياته، وتنفيذ أحكام القضاء الصادرة باسم القانون والملك.. عوض أن تربي الدولة المواطنين بالقدوة الصالحة والانصياع لأحكام القضاء، نجدها أول من يخرق القانون، وأكثر من هذا نجدها تشرع للتماطل ولخرق مبادئ الدستور وفصوله، وتعطي صورة سيئة عن أخلاق الدولة. إليكم آخر نموذج من مشروع القانون المالي المعروض على أنظار البرلمان الآن برسم ميزانية 2015.

نصت المادة الثامنة من مشروع القانون المالي على التالي: «في حالة ما إذا صدر حكم قضائي اكتسب قوة الشيء المقضي به يدين الدولة بأداء مبلغ معين، يتعين الأمر بصرفه داخل أجل شهرين من تاريخ تبليغ المقرر القضائي المذكور آنفا، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية»…

وما العمل إذا رفضت الدولة أداء ما بذمتها خلال شهرين؟ لا شيء، المادة تقول للدائنين اصبروا حتى تتوفر الدولة على اعتمادات لأداء ما بذمتها في حدود الاعتمادات المتوفرة لديها. إذا كانت الدولة ستؤدي ما بذمتها في شهرين أو ثلاثة، فما الذي يخيفها من الحجز على أملاكها بعد هذا التاريخ، إلا إذا كانت تسعى إلى حرمان المتضررين من وسائل استرجاع حقوقهم…

ماذا تعني هذه المادة؟

لنفترض أن أرملة مات زوجها وترك لها هكتارا من الأرض لتعيش منه وأبناؤها اليتامى، فجاءت الدولة (وزارة التجهيز مثلا) ونزعت منها الملكية للمصلحة العامة (لبناء طريق عمومية مثلا)، وأعطتها 10 دراهم للمتر فقط، فرفضت السيدة هذا السعر الزهيد لأرضها واعتبرته مجحفا في حقها، فذهبت إلى القضاء الإداري لتطالب بحقوقها كاملة، فحكمت لها المحكمة الابتدائية بتعويض عن الأرض المنزوعة منها بمقدار 500 درهم للمتر، عوض الـ10 دراهم التي أعطتها وزارة التجهيز في اليوم الأول. الدولة نازعت في هذا الحكم الذي صدر بعد سنة ونصف من النازلة (هذا هو معدل قضية في المحكمة)، فذهب المتنازعان إلى محكمة الاستئناف. بعد سنة أخرى صدر الحكم لصالح الأرملة ضد الدولة التي طعنت مرة أخرى في الحكم لأن الإدارة لا تنفذ الأحكام النهائية، وتقول إن الحكم يجب أن يحوز قوة الشيء المقضي به، أي أن يصدر عن محكمة النقض، وهذه المحكمة «انت وزهرك».. يمكن أن يصدر حكمها في سنتين أو ثلاث سنوات أو أربع سنوات أو أكثر… لا تحتسب المدد التي تستغرقها المساطر والشكليات (هناك محاكم تصدر أحكاما شفوية وتتأخر شهرين وثلاثة قبل أن تطبعها)…

لنفترض أن الأرملة المسكينة، وبعد خمس أو ست سنوات من التقاضي أمام المحاكم، حصلت على حكم حائز قوة الشيء المقضي به، وذهبت إلى وزارة التجهيز لتنفيذ حكم بتعويض الأرض المنزوعة بقيمة خمسة ملايين درهم بعد أن أعطتها الدولة في البداية 100 ألف درهم، وبعد أن ظلت طيلة هذه المدة بدون مورد رزق غارقة في «الكرديات»، ماذا سيقع مع القانون المالي الجديد؟

لقد دست المادة الثامنة في مشروع قانون المالية لسنة 2015 بعد أن إقتنع قضاة المحاكم بأن لا سبيل لدفع الدولة إلى إحترام أحكام القضاء إلا بالحجز على منقولاتها و عقاراتها، و قد صاغتها الإدارة بسوء نية من أجل تكبيل القضاء وحرمان المواطنين من إستيفاء حقوقهم في مواجهة تعسف الإدارة. الآن وزير المالية والحكومة وبنكيران يقولون لهذه السيدة الأرملة: «لا حق لك في إجبار الدولة على تطبيق الأحكام إلا في حدود ما تتوفر عليه من اعتمادات»، أي «خوي الما على كرشك بهاذاك الحكم اللي في ديك». إذا كانت الدولة لا تتوفر على اعتمادات لأداء ثمن نزع الملكية الخاصة بالمواطنين، لماذا تنزعها أصلا منهم؟ ولماذا تمس الحق في التملك؟ ولماذا تخرق الفصل 126 من الدستور الذي ينص على أنه «يجب على الجميع احترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء».

المادة الثامنة من مشروع القانون المالي وضعت هنا بسوء نية ظاهرة، فالدولة اليوم مدينة بأكثر من 30 مليار درهم للمواطنين، أفرادا وشركات، وكل هؤلاء يتوفرون على أحكام حائزة قوة الشيء المقضي به، وعندما بدأ القضاء يلزم الدولة بالأداء تطبيقا لأحكام القانون المدني، ويعطي ذوي الحقوق إمكانية الحجز على أموال الدولة الموجودة في الخزينة العامة للدولة طبقا لقانون المسطرة المدنية، وضع بوسعيد ورفاقه هذه المادة التي تحرم ذوي الحقوق من سلاح فعال لاستخلاص حقوقهم وهو الحجز على ما لدى الغير…

المادة الثامنة لا تخرق فقط قانون المسطرة المدنية والقانون التنظيمي للمالية، الذي يحدد بدقة الغرض من القانون المالي، بل تخرق الدستور نفسه وحق البرلمان في التشريع الذي يجد نفسه مكبل الأيادي أمام القانون المالي.

إن هذه المادة إذا مرت في البرلمان فهذا معناه أن حق الملكية لم يعد محفوظا في المغرب، وأن الدولة لا تضمن حقوق أحد وإن صدرت أحكام قضائية لصالحهم، وأن الذي يختار الاستثمار في المغرب عليه أن يبحث عن شركة تأمين عالية المخاطر تؤمن استثماراته في المملكة الشريفة، لأن الدولة تقول لك: «إذا صدر حكم لصالحك ضدي بعد سنوات طويلة من التقاضي فأنا لست مجبرة على الأداء إلا في حدود ما أستطيع، ولا أحد يملك القدرة على الحجز على أموالي وأملاكي، ولا أحد يستطيع أن ينازع في تقديري لما أستطيعه وما لا أستطيعه، ولذا ليس لديكم من حل إلا الصبر والصعود والنزول للإدارة، أو البحث عن واسطة نافذة، وكل شيء بثمن…
 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة تعطل الأحكام القضائية بالقانون المالي الدولة تعطل الأحكام القضائية بالقانون المالي



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 12:18 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 19:14 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

يبدأ الشهر بالتخلص من بعض الحساسيات والنعرات

GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 17:27 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:11 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 17:59 2019 الثلاثاء ,23 تموز / يوليو

تستاء من عدم تجاوب شخص تصبو إليه

GMT 11:31 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

منع جمهور الرجاء من رفع "تيفو" أمام الترجي

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة وصادمة في حادث قتل الطفلة "إخلاص" في ميضار

GMT 06:39 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"بيكوربونات الصودا" حل طبيعي للتخفيف من كابوس الشعر الدهني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca