الإسلاميون الجدد

الدار البيضاء اليوم  -

الإسلاميون الجدد

توفيق بو عشرين

ثلاثة أسماء تدير السلطة في بلادها بهذا الشكل أو ذاك، وتحتك بالسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، تجرب مصالحة الإسلام السياسي مع الديمقراطية، وتجتاز امتحان تعايش الإسلاميين مع العلمانية، والمجتمعات المحافظة مع ضرورات الحداثة. ثلاثة أسماء تتحرك تحت ضوء كثيف من الشرق والغرب، والجميع يحاول اكتشاف زعمائها الجدد، وقدرتهم على التكيّف مع أحوال الزمن وتحديات العصر.

رجب طيب أردوغان، الذي يقود تركيا منذ العام 2002، نجح في بناء حزب عصري محافظ، يضم ثلاثة تياراتٍ على قدر غير يسير من الاختلاف. أول هذه التيارات يتمثل في الإسلاميين الذين خرجوا من عباءة نجم الدين أربكان وحزب الرفاه، الذي لم يتأقلم مع قوانين العلمانية الصلبة في بلاد أتاتورك، فلفظته الدولة التركية التي يحرس الجيش فيها إرث الأب المؤسس. وثانيها تيار التقنوقراط الذين رأوا في زعامة أردوغان وانفتاحه جواز مرور للانخراط في حزب كبير، وخدمة بلدهم من خلال حزب محافظ وديمقراطي. وثالث التيارات هو البورجوازية المتدينة التي وجدت نفسها في حزب ينسجم مع قناعاتها الإسلامية، وإزاء برنامج اقتصادي رأسمالي يحفظ مصالحها، ويعطيها فرصاً استثمارية كانت محرومة منها زمن حكم العسكر الذي كان يُقصيها. ثاني نجاح حققه أردوغان يتجلى في قيادة تركيا للدخول إلى نادي الدول الصاعدة، حيث تضاعف معدل دخل الفرد ثلاث مرات في 13 سنة، وتضاعف الناتج الداخلي الخام لتركيا مرتين خلال هذه الفترة. وثالث نجاحاته أنه أعطى الغرب نموذجا آخر للإسلام السياسي غير تجارب إيران والسودان وأفغانستان التي كانت كارثية على شعوبها وبلدانها، ولولا تعقيدات الإقليم، وفي قلبه الأزمة السورية، ولولا تعصّب دول أوروبية منعت تركيا من دخول الاتحاد الأوروبي، ولولا تضخم نوازع الزعامة في شخصية أردوغان، لكانت أنقرة اليوم في مكان آخر تماما.

الثاني هو راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية التي تشارك اليوم في الحكومة بوزاراتٍ رمزية، فيما هي أول قوة سياسية في البرلمان، بعد انشقاق كتلة برلمانية كبيرة من حزب القايد السبسي. يحظى الغنوشي اليوم باحترام كبير في الشرق والغرب، باعتباره رجلاً حكيماً، قاد مفاوضات صعبة للتوافق مع خصومه على دستورٍ متقدّم، ثم اتخذ قراراً تاريخياً للخروج من السلطة في ظرف دقيق، لإنقاذ بلده من نار الفتنة، وسخر فكره وحزبه وتجربته للبحث عن توافقاتٍ مؤلمةٍ، لمنع الثورة المضادة من دخول بيت تونس الصغير. ليس الغنوشي منظّراً للإسلام المعتدل فقط، بل إنه أبان عن حنكة سياسية كبيرة، عندما قاد حزبه للخروج من السلطة عندما أصبحت تونس على شفا الانهيار، وقال: «خسرت النهضة السلطة لكن تونس ربحت الديمقراطية». كان في استطاعته أن يتصلب، وأن يحتمي بقاعدته الشعبية، العريضة بما يكفي لخوض صراع مرير حول السلطة مع اليسار وبقايا حزب بنعلي، لكنه فضل الانحناء للعاصفة، وقراءة مؤشرات المرحلة جيداً.

الثالث هو عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المغربية الذي يتمتع بحس برغماتي كبير مكنه من الانحناء للعواصف، ليستمر حزبه «العدالة والتنمية» في الحكومة عنواناً لتطبيع سياسي غير مسبوق بين الإسلاميين والقصر الملكي، ووسيلة لتحقيق إصلاحاتٍ، ولو صغيرة، تعيد إلى الشعب الأمل في التغيير في ظل الاستقرار، وتعطي معنى للانتخاب ولصندوق الاقتراع. ورغم أنه مازال يجرب ويصيب ويخطئ، فإنه نجح في القفز على حواجز كثيرة، ونجح أكثر في إخراج حزبه من الخانة الأصولية إلى الخانة المحافظة، وطمأن جزءاً كبيراً من الطبقة الوسطى والبورجوازية المغربية إلى أنه قائد حزبٍ لا يهدد الحرية، ولا نمط العيش المفتوح للمغاربة، ولا تراث التعددية في بلاد يفصلها 12 كلم فقط عن أوروبا.. إنه رئيس حكومة وحزب وليس مرشد جماعة، وحزبه اليوم مهموم بالبطالة ونسبة عجز الميزانية وإصلاح العدالة وإصلاح التقاعد، والحفاظ على علاقات جيدة مع الشرق والغرب، ولا يفكر في الخلافة ولا في الجهاد، ولا يعتبر نفسه وصياً على تديّن المغاربة. يعرف أن الأصوات التي منحته المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة لا تعني أن الشعب أعطاه شيكا على بياض.

الثلاثة رجال سياسة وتنظيم وإيديولوجيا يجربون توديع اليوتوبيا واعتناق الواقع، يقبلون بالديمقراطية ويعلنون الانتساب إليها، ولا يرونها كفرا ولا بدعة ولا تقليدا لثقافة الغرب، يحاولون أن يتكيّفوا مع قواعد هذه الديمقراطية فينجحون تارة ويفشلون أخرى، كما خصومهم. لا يدعون إلى محاربة الغرب، بل يمدّون اليد إليه، ويشجعون شركاته على القدوم إلى بلادهم للاستثمار. الثلاثة يدعون إلى محاربة الإرهاب ويناهضون «الإسلام الجهادي»، ويحاربون تعبيراته الراديكالية، ولا يبرّرون قتله وبربريته. تلك، في المجمل، سمات زعماء الإسلاميين الجدد، وهي بروفيلات بعيدة عن نماذج المودودي وحسن البنا وسيد قطب والخميني وابن لادن وعبد الكريم مطيع وعلي بلحاج… وقريبة الانتساب فكريا إلى وسطية واعتدال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلال الفاسي والمختار السوسي وغيرهم. إنها دورة قرن، وتحول 100 سنة بردت حرارة الرؤوس الحامية. هل نحن ازاء مرحلة ما بعد الإسلاموية؟ هل تفتح المتغيرات الهائلة التي تحيط بالعالم العربي والإسلامي المجال لنمط جديد من القادة والأفكار والاختيارات في صفوف الإسلاميين واليساريين والليبراليين والقوميين؟ اختيارات عنوانها الاعتدال والقبول بالآخر والتعايش معه، والعيش في الواقع بكل إكراهاته، لا في الحلم بكل إغراءاته.. اختيارات تبتعد عن الشعبوية وتقترب من العقلانية، فشعوب منطقتنا تحتاج إلى من يرفعها إلى فوق لا من ينزل بها إلى تحت…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإسلاميون الجدد الإسلاميون الجدد



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 07:29 2017 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

عائلة الرئيس الليبي السابق معمر القذافي تقاضي قطر

GMT 22:15 2018 السبت ,24 شباط / فبراير

خنيفرة يحشد أنصاره قبل مواجهة الحسيمة

GMT 06:35 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تستخدم قناة "روسيا اليوم" للتأثير على الشعوب

GMT 02:30 2014 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إنشاء شبكة قطارات الـ TGV الفائقة السرعة قريبًا في الجزائر

GMT 16:55 2017 الجمعة ,01 أيلول / سبتمبر

"العين روتانا" من أفضل 5 فنادق في العين
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca