هكذا دفنوا الربيع

الدار البيضاء اليوم  -

هكذا دفنوا الربيع

بقلم : توفيق بو عشرين

مرت الذكرى السادسة لميلاد الربيع العربي هذا الشهر في أجواء الانقسام المعتاد، بين مرحب بثورات الربيع التي أتت على حكم بنعلي ومبارك والقذافي وصالح، وأضعفت قبضة الأسد، وزعزعت عروش حكام المنطقة كلها، ودفعتهم، بدرجات، إلى الوعي بالمطلب الديمقراطي وسط شعوبهم، وبين ناقم على هذا الربيع الذي فتح باب جهنم على الجغرافيا العربية الميتة، وأيقظ فيها الحروب الأهلية والطائفية والمذهبية والانقسامات الإيديولوجية، وهدد الكيانات العربية والمغاربية بمزيد من التمزق والفرقة والهشاشة.

سيستمر هذا الجدل وهذا الانقسام مادامت لم تنجح، بعد، أي تجربة من تجارب الانتقال الديمقراطي التي انطلقت مع ركاب هذا الربيع، الذي بدأ سلميا في ساحات التحرير وميادين التظاهر، وانتهى شهيدا، أو سجينا، أو منفيا، أو محكوما عليه بالإعدام.

الربيع العربي يشبه طفلا ولد في عائلة لا تريده.. جاء إلى الدنيا عن طريق الخطأ، فاضطر الأب المستبد في العائلة التقليدية إلى القبول به اضطرارا، لكنه كان يخطط كل يوم للتخلص منه، مرة بدعوى أنه ابن سفاح، وأنه عضو غير شرعي لا نسب له في شجرة العائلة، ومرة لكونه طالع شؤم حمل معه الكوارث والنكبات والمحن، ومرة باتهامه بالعمالة للغرب، وسعيه إلى تخريب أسس العائلة التي كانت تمشي منذ عقود وفق قوانين ثابتة لا تتغير.

هناك من تعايش مع هذا المولود (تونس والمغرب)، وهناك من قتله بعد عام من ولادته (مصر واليمن)، وهناك من خنقه في المهد (سوريا)، وهناك من نسي رعايته فأهمله حتى مات أو يكاد (ليبيا)… وهناك من جند خزينة ماله وقنوات إعلامه للتآمر عليه (دول الخليج). في كل الأحوال، أظهرت تجربة الانتفاضات السلمية من أجل التغيير أن البنية السلطوية في العالم العربي لا تقبل بالإصلاح، وأنها وصلت إلى نقطة اللاعودة في موضوع التغيير، وأن هذه القطعة الجغرافية من العالم تحتاج إلى هزات أعنف، وحركات أكبر، وأجيال أكثر، ووعي أعمق لكي تتغير فيها البنية المتكلسة التي تقاوم الإصلاح الديمقراطي. هذه البنية المستعدة للتنازل عن كل شيء في سبيل السلطة، حتى وإن وصل الأمر إلى التفريط في استقلال البلد (سوريا)، أو العبث بالاستقرار (مصر)، أو تهديد السلم الأهلي (اليمن)، أو الرجوع إلى حكم القبائل والعشائر (ليبيا).

ليس العالم العربي وحده من فشل في التعامل مع هذا الربيع، الذي جاء كحل ثالث بين السلطوية، التي كانت تحكم بالحديد والنار في قمة الدولة، وبين الأصولية التي كانت تعارض باسم الدين في قاعدة المجتمع. الغرب، أيضا، فشل في فهم واستيعاب هذه الانتفاضة التي كانت تمثل فرصة تاريخية للخروج من السلطوية بأقل الأضرار، على اعتبار أن الكتلة الحرجة التي كانت تحرك هذه الانتفاضة كانت مدنية وسلمية وغير إيديولوجية، وتمثل تطلعات الجيل الجديد الذي فتح أعينه على الثورة الرقمية والقيم الليبرالية، وكان أبطالها يحلمون بالالتحاق بالعصر، وإخراج بلدانهم من ثقافة القرون الوسطى وقاعدة الاستثناء العربي… الفرصة ضاعت، وانقلب الربيع إلى خريف، ورجعت عجلة الإصلاح سنوات إلى الوراء.

الحاكم العربي كان خائفا على سلطته وماله من انتفاضة الشباب، وأمريكا كانت خائفة على إسرائيل في دول سيصير فيها للمواطن صوت ولرأيه اعتبار، فيما كانت أوروبا تخشى وصول نخب جديدة إلى الحكم، في أعقاب هذه الثورات، لا تعرف كيف تتفاهم مع المستعمر القديم، ولا تتقن فن المحافظة على مصالحه وامتيازاته، وهكذا التقت مصالح الشرق والغرب، فحفرا معا قبرا كبيرا لهذا الربيع، ووقفا يتفرجان على «داعش» وهي تأخذ زمام المبادرة، وتجند الشباب الذي لم يصل إليه تنظيم القاعدة، وتقوده إلى حرب لا مجد فيها، وإلى معركة لا عقل فيها، بل كل هدفها هدم المعبد على من فيه، وكذلك يفعل الإحساس بالمهانة بطالب الثأر.

المصدر : صحيفة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هكذا دفنوا الربيع هكذا دفنوا الربيع



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

GMT 05:41 2015 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

صور لبومة تشبه مارلين مونرو عندما تفرّق ريشها بسبب العواصف

GMT 12:31 2015 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

7 مناورات مشتركة للقوات البرية الروسية في 2016

GMT 12:14 2016 الثلاثاء ,27 أيلول / سبتمبر

بدء أعمال المنتدى الدولي للطاقة في الجزائر

GMT 02:16 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

فرحة عارمة تعم شوارع المغرب بعد فوز فريق الوداد البيضاوي

GMT 17:52 2016 الجمعة ,15 إبريل / نيسان

المجوهرات دليل على حب الرجل للمرأة

GMT 19:26 2017 السبت ,16 أيلول / سبتمبر

"إلعب إلعب" أغنية سناء محمد الجديدة على يوتيوب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca