الدولة وأزمة الشرعية

الدار البيضاء اليوم  -

الدولة وأزمة الشرعية

ادريس الكنبوري

يقتضي تحليل العلاقات المهتزة اليوم بين جماعات العنف والتكفير وبين الدول العربية، خصوصا في مرحلة ما بعد أحداث الربيع العربي، الرجوع إلى الفكرة المؤسسة لمفهوم الدولة في العالم العربي في العصر الحديث، والعلاقة بين هذا المفهوم ومفهوم الشرعية، ثم تحديد المعالم البارزة للصراع بين الدولة والأطراف التي ظلت تناوئها الشرعية منذ ميلادها، وآخر هذه الأطراف الجماعات السلفية المسلحة.
يخفي الصراع الحالي الدائر في العراق وسوريا اليوم، وفي مناطق أخرى من العالم العربي تتسم فيها الدولة بالهشاشة، سؤالا جوهريا يرتبط بمفهوم الدولة الحديثة، فهذا الصراع يعيد في الواقع طرح هذا السؤال مجددا؛ لأن التناقض الرئيسي والخطير أيضا أنه في الوقت الذي نشهد فيه رواج خطاب سياسي حول الدولة الحديثة وتقاليدها التاريخية في العالم العربي، وتراكم بعض الأدبيات السياسية والفكرية التي أسست لشرعية هذا المفهوم، نرى في المقابل أن هناك خطابا يشكك في هذه الشرعية، ونلاحظ على مستوى الواقع أن مفهوم الدولة لا يترجم سوى حفنة من الأشخاص ذوي مصالح تجمع بينهم يخفونها خلف واجهة مؤسساتية، ولا يعكس أي طبيعة مؤسساتية حقيقية صلبة؛ وقد ظهرت هذه الحالة في عدد من البلدان العربية خلال الربيع العربي، كتونس وليبيا مثلا، إذ كان يكفي أن يهرب الرئيس أو يقتل الزعيم لتنتهي الدولة، وليتبين أن ما يسمى الدولة ليس بناء مؤسساتيا محايدا عن الأشخاص، بل هي هم.
أحداث الربيع العربي لم تناقض هذا التحليل، فقد خرج المواطنون الغاضبون إلى الشوارع في بعض الدول العربية ليس للمطالبة بدمقرطة الدولة أو إصلاح المؤسسات، بل للمناداة برحيل الرئيس، لأن المخيال الجماعي للمواطنين العرب يختزن تلك العلاقة الشكلية بين الدولة كمؤسسة حديثة، والفرد كبقايا للزعامة القبلية التقليدية.
يرجع هذا الوضع إلى جذور تاريخية تجد أصولها في الاستعمار الأجنبي، الذي فرض الدولة كوحدة سياسية على مزاج الفكر السياسي الغربي الحديث، دون الأخذ بعين الاعتبار الشروط التاريخية للشعوب العربية. لكن المفارقة الرئيسية، التي يجب التأكيد عليها هنا، أن الغرب نفسه بالرغم من هذا الاختيار ظل طيلة العقود الطويلة الماضية يتعامل مع هذه الدول مجتمعة على أساس الوحدة البشرية والثقافية، كعرب، وليس على أساس تلك الوحدة السياسية التي أرساها بنفسه، كدول قومية بالمعنى السياسي المتعارف عليه أوروبيا، لأن الغرب أدرك منذ البداية أن المستقبل سيكون للتجاذب المستمر بين الدولة كحقيقة قائمة، وبين الانجذاب إلى مفهوم الأمة كمرجعية تاريخية وغير تاريخية، في هذه البلدان.
وجدت الدولة العربية الحديثة نفسها، منذ أن ظهرت، في مواجهة خصوم لا يعترفون لها بالشرعية. في البداية شكلت القبيلة الخصم الرئيسي لهذه الوحدة السياسية الجديدة، التي لم تكن مألوفة من قبل في التجارب التاريخية السابقة، ولم تكن لها أسس نظرية تعتمد عليها في الدفاع عن نفسها؛ خلافا للدولة في الغرب التي تم التنظير لها والتحضير لها أيضا على مدى قرون حتى أصبحت حاجة داخلية، لا مجرد مطلب خارجي. لم تصل الدولة إلى نيل الاعتراف بها إلا باللجوء إلى العنف لإسكات هذه القبائل، أو الاتفاق على تقاسم ضمني للسلطة بين القبيلة والدولة، أو توزيع الريع كما في البلدان التي منحتها الثروات الطبيعية حظوظا اقتصادية، وأعطتها الحظوظ الاقتصادية حظا سياسيا؛ ولا تزال القبيلة مع ذلك في عدد من البلدان العربية تشكل مصدر المساس بالشرعية ولا تكاد تستسلم إلى مفهوم الدولة، كما هو الحال في اليمن، لأن الدولة العربية لم تستطع أن تصبح مؤسسة ديمقراطية للتداول ولم تتحول إلى تجمع سياسي لفائدة الجميع، بحيث يشعر الجميع بالانتماء إليها، بمقتضى المواطنة.
لكن مع التطور السياسي واختفاء القبيلة التدريجي وظهور التنظيمات السياسية الحزبية، عادت الدولة لتتعرض للتشكيك في شرعيتها من جديد. فقد لجأت الأحزاب اليسارية في الستينيات والسبعينيات إلى استهداف الدولة ومحاولة قلبها، ووضعت تنظيرات تعتبر فيها تلك الدولة صنيعة الغرب الاستعماري، مستلهمة الفكر الاشتراكي والنظرية الماركسية. وهو وضع سوف يتجدد مع الحركات الإسلامية خلال السبعينيات والثمانينيات أيضا، التي كررت نفس العملية، لكن مع استلهام الأدبيات الدينية، والتشكيك في مفهوم الدولة، مقابل بعث مفهوم الأمة.
ما يحصل اليوم مع الجماعات التكفيرية، يعد نوعا من التكرار لما حصل في الماضي، إنما بشكل مختلف تماما ينهض على اعتماد العنف والتكفير الذي يوزع بالتساوي بين الدولة والمواطن، ويستغل الفراغ الذي تركته نخبة فكرية وسياسية لم تتحل بالجرأة الكافية لمساءلة مفهوم الدولة والتنزيل المؤسساتي والفلسفي له، وهو ما سوف يجعل هذه الدولة العربية الحديثة مرغمة مستقبلا على أن تعيد التفكير في ميثاق سياسي جديد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة وأزمة الشرعية الدولة وأزمة الشرعية



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca