الانتقال السياسي والانتقال الديني

الدار البيضاء اليوم  -

الانتقال السياسي والانتقال الديني

إدريس الكنبوري

قد تبدو عبارة «انتقال ديني» هنا مستهجنة بالنسبة إلى البعض أو غير مفهومة بالنسبة إلى البعض الآخر، لأننا اعتدنا على استعمال هذه العبارة في سياق الحديث عن الانتقال من محطة سياسية إلى أخرى أو من الاستبداد إلى الديمقراطية، فنتحدث عن»الانتقال السياسي» أو «الانتقال الديمقراطي»، مثلما شاع ذلك كثيرا في المغرب منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي.
ولكن اللبس سوف يزول إذا أوضحنا للقارئ مضمون ما نقصد إليه، فنحن نتحدث عن الانتقال من نموذج معين في توظيف الدين وفي تأويله وفهمه إلى نموذج آخر مغاير. إن ما يحصل اليوم داخل الإسلام لدى الجماعات التكفيرية المتشددة يعد نوعا من الانتقال الديني، وهو انتقال من نموذج يتمثل الدين بما هو تسامح وقبول بالتعددية واستيعاب للآخر، إلى نموذج مغاير يعتبر الإسلام سلطة غاشمة متشددة وعقيدة منطوية على نفسها لا تقبل بالآخر؛ وهو تصور يناقض -بالطبع- المضمون القرآني للتعايش والتعارف، المضمون الذي يلح على أهمية التعددية في الحياة الإنسانية كمرآة للذات نفسها.

ويمكن اعتبار التاريخ الإسلامي المطبق، أو ما نسميه بالتراث الإسلامي المتراكم عبر مختلف العصور، تاريخ الانتقالات المتوالية بين النماذج المعرفية والسلوكية، الفقهية والتشريعية. قد يكون هذا الانتقال الديني لاواعيا، يتم بشكل تلقائي بفعل احتكاك العقل الإسلامي مع الواقع مسلحا بالنص، وهو الانتقال الذي أنتج المدارس المختلفة في الفقه والعقيدة، وأنتج المذاهب الفقهية والكلامية، ثم أنتج التطويرات المتوالية داخل نفس المذهب على طول التجربة التاريخية للأمة. كما قد يكون هذا الانتقال انتقالا واعيا ومقصودا، يتم عن سبق إصرار وتخطيط، وهو ما نلاحظه لدى مختلف الحركات الإصلاحية لتي خرجت من أحشاء المجتمع الإسلامي، من أجل التصدي للانحرافات الدينية التي قد تظهر بين الحين والآخر من لدن جماعات أو أفكار معينة، ومثل هذا الانتقال هو ما بات مطلوبا اليوم، بالنظر إلى ظهور تيارات التكفير والعنف التي تريد أن تنجز انتقالا دينيا على مقاساتها، مستهدفة ما يسميه البعض «اختطاف» الإسلام.

لا يمكن التفكير في الانتقال السياسي في المنطقة العربية دون التفكير -بشكل مواز واصطحابي- في الانتقال الديني، إذ طالما تعاملنا مع مفهوم الانتقال السياسي في الوطن العربي بوصفه عملية معزولة يمكن أن تتم بمفردها، ولم نأخذ بعين الاعتبار حجم حضور الدين في المخيال السياسي والاجتماعي للأفراد والجماعات؛ ففي المجتمعات الغربية التي حققت فيها العلمانية تراكما تاريخيا ملحوظا، وصارت متكسبا في منهجية التفكير في الدين والتعامل مع شؤونه في التجربة السياسية، يمكن أن نفصل بين الانتقال السياسي والانتقال الديني، لأن الدين انتقال هنالك إلى الحيز الخاص والفردي، ولم يعد يطرح نفسه كنفوذ اجتماعي وسيكولوجي لدى الفرد المواطن؛ أما في السياق الحضاري العربي الإسلامي فإن الفصل مهمة صعبة، بل مستحيلة.

الأمر الأكثر صعوبة في هذه العملية، على صعيد التجربة العربية الإسلامية، أن النموذج السياسي ليس منفصلا في حد ذاته، بل هو نموذج تابع للنموذج الديني، بمعنى أن التصورات العقدية والدينية هي التي تنتج التصور العام لما يجب أن تكون عليه السياسة، بوصف السياسة تنظيما معينا للمجتمع ونمطا محددا للحكم، فالجماعات المتشددة والتكفيرية، مثلا، ترى أن المفاهيم العقدية هي الأصل في التنظيم السياسي، وهي حين تلجأ إلى استعمال العنف والقتل فلأنها تنطلق من نموذج معين في فهم الدين ترى من خلاله الشكل الذي يراد أن يكون عليه المجتمع، فهي لا تعتبر أن النموذج الديني يجب أن يقدم إلى الإنسان، بل تعتبر أن الإنسان هو الذي يجب أن «يُساق» إلى النموذج الذي تؤمن به، وذلك انطلاقا من المفاهيم العقدية التي تؤمن بها.

ما حصل في البلدان التي شهدت أحداث الربيع العربي، يشير إلى حالة التناقض التي حصلت بين التطلع إلى إجراء الانتقال السياسي، دون التوسل بالانتقال الديني إلى تحقيقه، وهو ما اتضح في آليات تدبير المجال الديني بعد إنجاز الانتقال السياسي، لأن ذلك التدبير كان يسحب وراءه نفس الأنماط القديمة السابقة في ما يتعلق بالمفاهيم الدينية التقليدية، التي سمحت -في الأخير- بتسلل الجماعات المتطرفة عبرها. لقد حاولت تلك البلدان أن تجترح تجديدا على مستوى السياسة، ولكنها أخفقت لأنها لم ترفق التجديد السياسي بالتجديد الديني.

يتطلب الانتقال السياسي، المتمثل في قيم مثل الاستقرار والديمقراطية والتعايش والتعددية، انتقالا دينيا يوازيه من حيث القيم التي يسعى إلى توطينها في المجتمع، لأنه بدون هذا الانتقال الذي يؤسس لتلك القيم في الدين الإسلامي، بما يجعلها جزءا من المخيال الفردي والجماعي، لا يمكن لأي انتقال سياسي أن ينجح، وذلك لأنه ببقاء النموذج الديني الذي يولد جماعات التكفير ويمنحها المشروعية من داخل الدين نفسه، من الصعب التفكير في نمط من الحياة السياسية المعاصرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الانتقال السياسي والانتقال الديني الانتقال السياسي والانتقال الديني



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca