علماء المغرب وقضية الردة

الدار البيضاء اليوم  -

علماء المغرب وقضية الردة

بقلم : ادريس الكنبوري

لا تزال قضية الردة في الفقه الإسلامي تثير الجدل، ما بين الداعين إلى إلغاء الحد المنصوص عليه في كتب الفقه القديمة وملحقاته المتعلقة بالأحوال الشخصية للمرتد والمطالبين بالإبقاء عليه، بذريعة أنه لا ينبغي إلغاء حكم أقره الفقهاء في القديم وسار في الناس مسرى النص المقدس.

فعلى الرغم من التحولات العميقة التي يعيشها المسلمون اليوم وانفتاح الأبواب أمام الثقافات والأفكار بحيث أصبح من المتعذر غلقها وانتشار ثقافة الحق في الحرية وحرية الاعتقاد أو الضمير بوجه خاص، وبالرغم أيضا من كون النصوص القرآنية والأحاديث تؤكد أهمية هذه الحرية، إلا أن موضوع الردة لا يزال إلى اليوم يسيل مدادا كثيرا بين الفقهاء والعلماء والباحثين في الفكر الإسلامي، لا يكاد يتحقق الإجماع حول إلغاء متعلقاته من الأصل.

قبل خمسة أعوام أخرج المجلس العلمي الأعلى، وهو أعلى مؤسسة دينية في المغرب ويرأسه الملك بوصفه أميرا للمؤمنين، رأيا فقهيا حول المرتد نص فيه على ما هو معروف في الفقه التقليدي حول إنزال حكم الردة عليه، وهو القتل.

وقد أثار ذلك الرأي، الذي أطلق عليه البعض اسم الفتوى رغم أن المجلس لم يقم سوى بإعادة إخراج ما هو معروف في هذا المضمار، نقاشا في الساحة المغربية، ورد الكثيرون على المجلس والدعوة إلى تجديد الخطاب الديني في ما يتعلق بمجال الحريات الفردية، على أساس أن الحرية هي الأصل، وأن لا تقييد لتلك الحرية إلا في إطار ما يسمح به القانون أو الحاكم باعتباره ولي الأمر، في باب تقييد المباح الذي يقدر بضرورات معينة.

وقبل أيام أصدر المجلس رأيا ثانيا ينقلب فيه على الرأي السابق، بعد خمس سنوات، حيث أكد على أن “المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها والمستقوي عليها بخصومها، أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية”.

وبرر المجلس رأيه الجديد بوجود أدلة في السيرة النبوية، منها “صلح الحديبية” الذي كان من بنوده أن من أسلم ثم ارتد وعاد إلى قريش لا يطالب به المسلمون وأن من التحق بالمسلمين من المشركين استردوه.

المثير في الأمر ليس تراجع المجلس عن رأي فقهي أدلى به في وقته ودافع عنه بكل حمية، بل كونه لم ينفتح على الاجتهادات التي طالت موضوع الردة في الفقه الإسلامي الحديث منذ نحو قرن من الزمن، وظل مشدودا إلى فقه تقليدي كانت له مسوغاته حسب ظروف الزمان والمكان.

فمنذ بداية القرن الماضي أعلى رواد الإصلاح الديني والسياسي من قيمة الحريات الشخصية وأعادوا قراءة النصوص الدينية في ضوء العصر بما يخدم الإنسان باعتباره مناط المسؤولية، وذلك على أساس أن قضية الإيمان هي مسألة ترتبط بالعلاقة بالفرد وخالقه، وليس من مسؤولية الدولة أو الإمامة إكراه أحد على الدين، تنزيلا للآية الشهيرة “لا إكراه في الدين”، وهي آية واضحة صريحة لا تقبل تعسفا في التأويل.

ومن ضمن تلك الاجتهادات ما قدمه الشيخ الأزهري عبدالمتعال الصعيدي في ثلاثينات القرن الماضي، وهو اجتهاد هام جدا خصوصا بالنظر إلى الحقبة التي ظهر فيها، لكنه للأسف الشديد لم يلق اهتماما، بل لا يكاد الدارسون، إلا القليلون منهم، يذكرون حتى اسم صاحبه، علما بأنه دفع ثمن مواقفه الجريئة حين هاجمه مشايخ الأزهر وتم توقيفه من عمله لمدة طويلة، وعانى ما عاناه شيخ أزهري آخر هو علي عبدالرازق بعد نشر كتابه المعروف “الإسلام وأصول الحكم”.

أثبت الشيخ الصعيدي بالأدلة من الكتاب والسنة أن حد الردة ليس من الإسلام، وأنه ليس حكما دينيا بل هو حكم سياسي، ورد بعض الأحاديث التي يستند إليها القائلون بحد الردة في ضوء النصوص القرآنية الصريحة، ومنها آية “لا إكراه في الدين” التي يجب أن توضع مقياسا تقاس به النصوص الحديثية في موضوع الردة.

بل إنه ذهب أبعد من ذلك، في موقف غير مسبوق ولا حق له في نظرنا، حين أكد على أن المرتد يعامل معاملة الكافر الأصلي، مما يوجب حق دعوته إلى الإسلام مجددا، وليس اعتباره كافرا مرتدا يجب إقامة الحد عليه. وفوق ذلك قال إن المرتد من حقه أن يلتحق بالدين الجديد الذي يرتضيه وأن يدعو إليه الآخرين.

وبالطبع لم تكن هذه الجرأة في الاجتهاد المنفتح ترضي حراس الفقه التقليدي الذين كانوا متحصنين بالأزهر، فتعرض الرجل لأقذع الهجوم وأقيل من منصبه، ولكن آراءه الجريئة فتحت بابا واسعا للاجتهاد في قضية الردة، ولحق به آخرون في الدفاع عن حرية الاعتقاد، أمثال الشيخ محمود شلتوت، ولم تعد مسألة الدفاع عن حرية العقيدة في الإسلام استثناء لقاعدة الردة، بل أصبح المدافعون عن هذه الأخيرة هم الذين يشكلون الاستثناء.

ونعتقد أن الموقف الأخير للمجلس العلمي الأعلى بالمغرب تصحيح لرأي شاذ منتشر في الساحة الدينية، كما أنه موقف يعزز جهود المغرب في الدفاع عن الحريات والحقوق. ففي العام الماضي احتضنت مدينة مراكش مؤتمرا دوليا حول حماية حقوق الأقليات، بما فيها الأقليات الدينية، وخرج بتوصيات هامة من بينها أن الإسلام كرم الإنسان بصرف النظر عن الجنس والدين واللغة واللون، وأن من دواعي التكريم أنه منحه حق اختيار دينه بكل حرية، وأن البشر جميعا إخوة في الإنسانية؛ ولم يكن من المنطقي أن يصادق المغرب على تلك المبادئ التي تم الإعلان عنها على أرضه، بينما يقف المجلس العلمي على النقيض من ذلك.

المصدر : صحيفة العرب

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

علماء المغرب وقضية الردة علماء المغرب وقضية الردة



GMT 08:22 2018 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

"إيتا" الباسكية تنهي حقبة الدماء في إسبانيا

GMT 01:23 2018 الخميس ,27 أيلول / سبتمبر

تحولات في جغرافيا الإرهاب

GMT 03:29 2018 الجمعة ,07 أيلول / سبتمبر

أردوغان وسياسات المباغتة

GMT 05:20 2018 الأربعاء ,05 أيلول / سبتمبر

موسم سقوط العمائم

GMT 04:12 2018 الثلاثاء ,04 أيلول / سبتمبر

الإرهاب والفساد السياسي

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة

GMT 13:52 2016 الأحد ,20 آذار/ مارس

كريم طبيعي مزيل لرائحة العرق

GMT 08:47 2016 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

البامية للوقاية من الأمراض المستعصية والاكتئاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca