أوكرانيا «صندوق باندورا»

الدار البيضاء اليوم  -

أوكرانيا «صندوق باندورا»

سوسن الأبطح
بقلم : سوسن الأبطح

ها نحن نكتشف أن أوكرانيا هي التي تطعمنا خبزاً، وتزود المنطقة بالذرة وزيت دوار الشمس. وهي موطن للبترول والغاز، والموقع الذي تتجمع فيه أربع محطات نووية بمقدورها أن تنهي وجودنا على الكوكب بلمح البصر. ومع ذلك أوكرانيا دولة فقيرة، أكلها الفساد ونخرتها البيروقراطية، منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي وهي تحاول الخروج من عثراتها. صارت تتطلع بحسد إلى بولندا وجيرانها الذين خرجوا من عباءة الشيوعية، وقفزوا صوب رأسمالية عفية. تتعثر أوكرانيا، ويظن أهلها أن المخرج هو بالدخول إلى الاتحاد الأوروبي، ليعم الازدهار، وقد تكون الأزمة في الداخل نفسه ونزاعاته التي لا تنتهي.
فمن المجحف لدولة تنتج السيارات والطائرات والدبابات ومراكب فضائية وصواريخ، ولها نشاط بحثي علمي كبير، ومعرفة تكنولوجية مرموقة، ومداخيل تناهز 200 مليار دولار سنوياً، ويبقى 19 مليوناً من سكانها، أي نصفهم، تحت خط الفقر، ثم تأتي الجائحة لتزيد من عوزهم. الخلاف الإثني، الصراع على الهوية، ونزاع مواطنيها على الجنوح شرقاً صوب روسيا أو غرباً باتجاه الاتحاد الأوروبي، كان مقتلها. ثم إن العصبيات والحمايات، عززت قدرة بعض من هم في السلطة على تعميق الفساد والاستفادة من الصفقات. هذا الخليط السكاني الديني اللغوي، لم يجد بعد الاتحاد السوفياتي، مظلة موحدة يأوي إليها. ليست القضية أن تذهب أوكرانيا باتجاه روسيا كما بيلاروسيا أو أوروبا، كما أخوات كثر لها في شرق أوروبا، بل أن تتفق على ما هو قابل للتنفيذ. بسبب القبائلية لم تتحول إلى ديمقراطية حقة، ولم تتمكّن من الاستسلام لسلطة مستبدّة تسيّر أمورها، فوقعت في فخ الاثنين معاً.
تعاملت بحذر وأحياناً بعداء، مع روسيا، فلم تتمكن من تطوير قدراتها العسكرية والصناعية الموروثة، كما يجب، ولم تفلح في الانضمام إلى أوروبا، فخسرت الشروط الإصلاحية الجذرية التي كانت ستملى عليها لتبلغ غايتها، وتلك كانت مهمة صعبة.
بين الشرق والغرب، ضاع الأوكرانيون، ولم يتحدث العالم إلا عن نسائهم الجميلات، بمَن في ذلك النائب البرازيلي رثر دو فال، الذي ذهب لدعم اللاجئين المنهكين على الحدود، وتبرع بآلاف الدولارات، ثم فضح طواياه بتسريب مسجل يتحدث فيه عن الفتيات الجميلات الفاتنات اللاتي لم يرَ مثلهن من قبل. وكي تكتمل الفضيحة، يشرح: «إنهن سهلات المنال لأنهن فقيرات... لذا بمجرد أن تنتهي هذه الحرب، سأعود إلى هناك». هكذا رأى كثيرون أوكرانيا التي تنام على كنوزها من الفحم والحديد والزئبق، خصوصاً التيتانيوم والكبريت والليثيوم الثمين الذي يدخل في صناعة البطاريات والهواتف الذكية.
حتى الأوروبيون لم يعيروا أوكرانيا، أو ما بات يعرف اليوم بـ«سلة غذاء العالم»، اهتماماً في البدء، رغم موقعها الاستراتيجي الحاسم على البحر الأسود، وعلى مقربة منهم.
الآن لمعت أوكرانيا في عيون الجميع. تذكروا «تشيرنوبل» ومآسيه، القاتلة ومحطاتها للطاقة النووية ذات القدرة الهائلة، وما يمكن أن تشكله من خطر، وأنابيب الغاز الضخمة التي تعبرها وبفضلها تعيش أوروبا، وسككها الحديدية النشطة. الآن وقد وصل الجيش الروسي إلى مشارف كييف، انقلبت الدنيا، ولن تعود أبداً كما كانت، ليس فقط لأهمية أوكرانيا الجيوسياسية والغذائية للعالم أجمع، بل لأن منطقتي دونيتسك ولوهانسك الغنيتين لن تعودا إلى أوكرانيا ومعهما القرم، وعلى الأرجح أوديسا التي تنتظر اجتياح جيوش بوتين ليحكم قبضته على الشواطئ الأوكرانية ويعزل البلاد عن متنفسها البحري.
لن تتوقف حكاية أوكرانيا عند التهديدات النووية، وارتفاع أسعار النفط والغاز، وجوع البشرية، وتجمع جديد لمقاتلين مرتزقة من أوروبا وآسيا، واحتمال انهيار عملات رئيسية. فالتهديدات الجرثومية هي الأخرى تطل برأسها. ويتبين أن ثمة مختبرات بيولوجية، يحكى عن أنها تنطوي على كميات من الفيروسات الخطيرة، وهذا ليس بمستبعد. كما نشر أن روسيا اكتشفت، خلال اجتياحها أوكرانيا، أن الولايات المتحدة تستخدم هذه المنشآت في البرامج العسكرية البيولوجية.
المختبرات البيولوجية موجودة، وثمة تعاون بين أميركا وأوكرانيا بعد الثورة البرتقالية لتجديدها، لكن الخلاف هو على وظيفتها ومحتوياتها، ومن سيمتلك زمامها في الأيام المقبلة، وماذا سيفعل بها وبنا، فكل جهة تتهم الأخرى بأنها ستستولي عليها، ويمكن أن تستخدمها للإيقاع بالطرف الآخر وتوريطه بتحميله المسؤولية.
المسؤولة في وزارة الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند لم تستبعد إمكانية وقوع أبحاث حساسة، في أيدي الروس. أما الصين التي اُتهمت طويلاً بأنها مفبركة فيروس «كورونا»، ففتحت النار على الأميركيين، وهي تؤكد أن الأنشطة العسكرية البيولوجية الأميركية في أوكرانيا هي «قطرة في بحر»، من أصل 336 من المختبرات البيولوجية الأميركية المنتشرة في 30 دولة حول العالم. وبالمناسبة طلبت الصين من أميركا الكشف عن نواياها ومشاريعها، وأن تقبل بعد تمنّع عشرين سنة، إضافة بروتوكول التحقق إلى «معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية»، والخضوع لعمليات التفتيش في بلادها وخارجها، كي يعرف المجتمع الدولي الخائف ما يحدث في هذه المختبرات.
أوكرانيا دولة مهيضة، أكثر ما اشتهرت بثورتها البرتقالية التي فشلت بسبب احتدام الخلافات، بين من تسلموا السلطة، وانتهى بهم الأمر إلى الخروج منها.
لكن يصح القول عن هذا البلد المسكين ما قاله الباحث الفرنسي جيل كيبل عام 2003 عندما دخلت القوات الأميركية إلى العراق، مستعجلة على حصاد نصر سريع. عندها وصف كيبل جورج بوش الابن بأنه فتح عليه «صندوق باندورا» الذي منه في الميثولوجيا اليونانية، تخرج كل شرور العالم. ويخشى أن تكون أوكرانيا صندوقاً آخر، لا يختلف كثيراً عن الذي فتحه بوش ذات يوم في العراق، ليصبح المستقبل بأسره، من بعدها، رهن اللامتوقع.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوكرانيا «صندوق باندورا» أوكرانيا «صندوق باندورا»



GMT 20:42 2025 الخميس ,07 آب / أغسطس

شاعر الأندلس لم يكن حزيناً

GMT 20:40 2025 الخميس ,07 آب / أغسطس

كي لا تسقط جريمة المرفأ بالتحايل

GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

جورجينا تثير اهتمام الجمهور بعد موافقتها على الزواج وتخطف الأنظار بأجمل إطلالاتها

الرياض - الدار البيضاء اليوم

GMT 18:19 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

قد تمهل لكنك لن تهمل

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 18:00 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تبحث أمراً مالياً وتركز على بعض الاستثمارات

GMT 12:52 2013 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

هل الدكتور دكتور والمهندس بالفعل مهندس؟

GMT 00:29 2017 الخميس ,26 تشرين الأول / أكتوبر

مشاحنات في جنازة سعيد بونعيلات بين عائلته ورفاقه

GMT 20:49 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 05:23 2018 الجمعة ,05 تشرين الأول / أكتوبر

موديلات فساتين للمحجبات من أسبوع الموضة في نيويورك

GMT 22:09 2015 الثلاثاء ,17 شباط / فبراير

افتتاح فرع جديد من "المطعم البلدي" في مراكش

GMT 02:51 2015 الخميس ,08 تشرين الأول / أكتوبر

شاب هندي يعاني من مرض الشيخوخة المبكرة

GMT 23:51 2021 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

تفاصيل "اجتماع الأزمة" بين أبرشان ولاعبي اتحاد طنجة

GMT 20:35 2018 الجمعة ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تطورات جديدة في قضية لطيفة رأفت ضد رئيس الوزراء المغربي

GMT 09:16 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

بلاك شاينا أنيقة خلال توزيع جوائز "BET Hip Hop"

GMT 08:03 2018 الإثنين ,14 أيار / مايو

طرق وخطوات تطبيق "الأيلاينر الأومبري"

GMT 17:15 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

تدريبات خاصة ليوسف القديوي لاستعادة لياقته البدنية

GMT 22:47 2016 الجمعة ,18 آذار/ مارس

حلم كأس العالم يعود يا إماراتيون

GMT 17:10 2015 الثلاثاء ,20 تشرين الأول / أكتوبر

فجر السعيد تضع حدا للخلاف مع الفنانة الإماراتية أحلام

GMT 03:22 2017 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إلهام البورقادي وصيفة لبطلة العالم في الكيك بوكسينغ

GMT 00:45 2017 الأحد ,24 أيلول / سبتمبر

ياسر المصري يوضح أن شخصية الزعيم ثرية جدا
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
RUE MOHAMED SMIHA,
ETG 6 APPT 602,
ANG DE TOURS,
CASABLANCA,
MOROCCO.
casablanca, Casablanca, Casablanca