الدارالبيضاء ـ حاتم قسيمي
اعتبرالباحث في القانون العام، والحاصل على شهادة الدكتوراة في العلوم الإداريّة، رشيد لبكر أنّ تجربة 10 أعوام مكّنت المغرب من الحصول على نص جماعي متطوّر نسبيًا، مشيرًا إلى أنَّ المملكة لم تكن الوحيدة التي اقتبست نظام وحدة المدينة من فرنسا، موضحًا أنَّ تسيير المدن لن يخرج عن المبادئ العامة للدستور، من حيث اعتماد الشفافية والمشاركة. وأضاف لبكر، في حديث إلى "المغرب اليوم"، أنّه "كان من الطبيعي أن تسمى المقاطعات بجماعات القرب، وليس المهم هو إلغاء وحدة المدينة، أو الإبقاء عليها، بل المهم هو الوقوف على أسباب الاختلال، والتساؤل بشأن مردها، إن كان القانون أم إلى القائمين عليه محليًا". وأوضح أنَّ "الدستور المغربي لم يشر صراحة إلى نظام وحدة المدينة، ككيان إداري قائم الذات، ولا إلى نظام وحدة المدينة كأسلوب من أساليب التدبير الإداري المحلي الحديث". ويرى لبكر أنَّ "الدستور في هذه النقطة ظلَّ على العموم وفيًا للمقتضيات المنصوص عليها في ظهير التنظيم الجماعي، الذي توقف عند ذكر الجماعات المحلية، مصنفًا إياها إلى جماعات حضرية، وقروية، وجهات، ومجالس مقاطعات، ومجالس محافظات، ولم يشر صراحة إلى المدينة كمفهوم، وبالتالي فتعبيرنا في هذا الشأن هو نوع من العادة، التي دأب عليها أسلوب خطابنا، ولكن المدينة كمفهوم قانوني قائم الذات ما زال غير موجودًا". وأضاف "بالرجوع إلى الدستور الجديد، نجد أنّه خصّص الباب التاسع منه، في الفصول من 135 إلى 144 للمقتضيات المنظمة للجهات والجماعات الترابيّة، مع إعطاء مكانة أوسع وأشمل بالتخصيص للمسألة الجهوية، من حيث التنصيص على المبادئ العامة المؤطرة للعمل الجماعي المحلي، ومنها الارتكاز على مبادئ التدبير الحرّ، وعلى التعاون والتضامن وتأمين مشاركة السكان في تدبير شؤونهم وغيره في المادة 36". وتابع "هذا في الوقت الذي أحال المسائل العملية والإجرائية إلى مجال القانون، عبر إحالته للمسائل المتعلقة بالتسيير، من حيث طرق تنظيم الانتخابات، وأحكام تحسين تمثيلية النساء في المجالس، والاختصاصات، وغيره، إلى القانون التنظيمي، بمقتضى المادة 146". وأشار إلى أنَّ "المخطط التشريعي، الذي اقترحته الحكومة، بغية ملاءمة المنظومة القانونية الوطنية مع مقتضيات الدستور، يتضمن من بين خطوطه الرئيسية مشروع القانون التنظيمي الخاص بالجهات والجماعات الترابية الذي نتحدث عنه، ويمكن إضافة نقطتين هامتين، بشأن علاقة وحدة المدينة مع الدستور الجديد، أولهما أنَّ تسيير المدن لن يخرج عن المبادئ العامة المنصوص عليها دستوريًا، من حيث اعتماد مبادئ الشفافية والمشاركة وتطبيق مبدأ التدبير الحرّ، أما الثانية، فتتجلى في تطلعنا إلى إقدام القانون التنظيمي المرتقب على تدارك كل نقط الفراغ الواردة في هذا الشأن، من حيث التنصيص المباشر على مصطلح المدينة ككيان إداري، له محل من الإعراب القانوني، ثم بعدها التفكير في كيفية تجاوز كل ثغرات نظام وحدة المدينة، وتثمين مكتسباته، في إطار قانوني متلائم مع مبادئ الدستور، ومتناغم مع الحكامة التي يدعو إليها". وبشأن أسباب قبول العمل بنظام وحدة المدينة، وإلغاء منظومة المجموعات الحضرية، بيّن لبكر أنّه "لقد سبق للمناظرة الوطنية السابعة بشأن الجماعات المحلية، التي نظمت في 19 تشرين الأول/أكتوبر 1998، برئاسة الملك الحسن الثاني رحمه الله، أن سجلت مآخذ كثيرة على نظام المجموعة الحضرية، منها تسبب النظام الجماعي لعام 1976 في تقزيم المجال الحضري، والإكثار من عدد المنتخبين، وانحسار الإمكانات المرصودة في التسيير من طرف الجماعات الحضرية، وعدم المساواة بين المواطنين في الخدمات والأعباء، وضعف التنسيق بين أنشطتها، والتضحية بالمشاريع الكبرى على حساب المشاريع الصغرى، فضلاً عن تضارب الاختصاصات، بين الجماعات الحضرية والمجموعة الحضرية، وتمسّك كل جماعة بتدبير قضاياها الجماعية، وأحيانًا دون تنسيق فعلي بين المجموعة". ولفت إلى أنَّ "التوصيات شدّدت على ضرورة اعتماد نظام يقضي بإحداث بلدية واحدة للمدينة، مع مجالس للمقاطعات، مكوّنة وتابعة لها، على أساس أن ترتكز السلطات والإمكانات لدى مجلس المدينة، بغية توظيفها بصورة موحدة وشمولية، لتحقيق تسيير عقلاني لقضايا المدينة"، موضحًا أَّنَّ "هذه الدعوات توطدت مع مجيء حكومة التناوب، عام 1998، التي رفعت شعار الإصلاح والمراجعة الجذرية للقوانين السارية، لا سيما في ضوء الأزمة المستفحلة في المغرب إثر صدور تقرير البنك العالمي، الذي كان قد هدد بالسكتة القلبية". وأضاف "تزامن كل ذلك مع اكتساح أدبيات الحكامة أو التدبير الرشيد الساحة العلمية، التي طغت على لغة التعامل الدولي، تحت مسميات عدة، منها التشارك والمشاركة والاندماج والالتحاص والاستراتيجية المعلقة بنتائج، وهي الحركية التي مهدت الطريق فعلاً نحو تفعيل مطلب مراجعة التنظيم الجماعي، ما أدى، بعد نقاشات موسعة، دامت على ما يربو من أربعة أعوام، إلى مشروع مراجعة ميثاق 1976، بمقتضى قانون 78.00، بتاريخ 3 تشرين الأول/أكتوبر 2002، الذي عزّز المشهد الجماعي بمقتضيات جديدة، بشأن تسيير المدن الكبرى، في إطار ما اصطلح عليها بنظام وحدة المدينة". وشدّد لبكر على أنَّ "المغرب لم يكن المستعمرة الوحيدة من طرف فرنسا التي اقتبست نظام وحدة المدينة، بل هو تقليد شائع ومعروف، حيث ظلّت المستعمرات تابعة لمستعمرها على المستوى اللّغوي والتدبيريّ والتشريعيّ، مع بعض الملائمات البسيطة". واعتبر أنَّ "المغرب لم يحد عن هذه القاعدة، وقام هو الآخر باستنساخ التجربة الفرنسية الرائدة، ولكنه استنساخ مشوه وبلا إبداع، لا سيما على مستوى ترجمة بعض المصطلحات، مثل نظام المقاطعات، وهي ترجمة حرفية وغبيّة، على اعتبار أن الحديث عن المقاطعة يذهب دائما بالخيال المغربي إلى المقاطعات التي يرأسها (القائد)، ويسيرها (الخليفة) و(الشيخ) و(المقدم)، و( المخازنية)، وهؤلاء من مخلفات النظام المخزني، وسمات الإدارة السلطوية، ومن الصعب في مجتمع مغربي مازالت تنخره الأميّة، أن يتوفق كل مواطنيه، في تحديد التمايز الذي نريد بين المقاطعتين، وهي مشكلة كبيرة، أرجو أن يتم تداركها في القانون التنظيمي". وتابع موضحًا "المقاطعات الترابية أو الجماعية، من المفروض أنها تقوم بخدمات القرب، ومن الطبيعي أن تكنى باسم يعبر عن خدمتها هاته، كأن تسمى بجماعات القرب". وأشار لبكر إلى أنّ "نظام وحدة المدينة يطبق في 14 مدينة مغربية، منها ست مدن كبرى، يطبق فيها نظام وحدة المدينة ذي الطابقين، أي مجلس جماعي ومقاطعات تابعة، لا تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، وهي الدار البيضاء، والرباط، وسلا، وفاس، ومراكش، وطنجة، وقبل الحديث عن مدى إمكان توسيع تطبيقه، ليشمل الأقاليم الجنوبية، يجب أن نتساءل عن مدى نجاعة هذا النظام أولاً، وعن الاختلالات التي تعتريه، فإذا تمَّ الاتفاق على ضرورة الإبقاء عليه، وتدعيمه بمعطيات قانونية أخرى، في إطار المخطّط التشريعي المقبل، لن يكون بعدها رفض لتوسيعه ليشمل مدنًا أخرى، إذا كان معدل ساكنتها يتجاوز 500 ألف نسمة، سواء في جنوب المغرب أو في شماله". ويرى لبكر أنَّ "إلغاء نظام وحدة مدينة الدارالبيضاء، التي تعرف اختلالات على المستويين المالي والبشري، ليس بأهميّة الوقوف على أسباب الاختلال"، وتساءل "هل مرد الخلل إلى القانون أم إلى القائمين عليه محليًا"، مبيّنًا أّنَّ "الجواب على هذا السؤال قد نحصل عليه بعد الاستشارات الموسعة التي ستجريها الحكومة في إطار تفعيل مخططها التشريعي، الرامي إلى سن قوانين تنظيمية جديدة، ومنها تلك المؤطرة للعمل الجماعي المحلي". وأضاف "كموقف شخصي، أقول أنَّ التقييم الموضوعي للتجارب الإنسانية الرائدة لا تكفي لأجله بضعة أعوام، كما أنَّ التقييم الموضوعي لا يستقيم بإطلاق أحكام قيمة على عواهنها، في غياب معطيات عملية وميدانية مدققة". ويعتقد أنَّ "التقييم، وإن كان يشكل المنهج المنطقي للحكم على الأشياء، فإن تفعيله يحتاج إلى ترسانة من الموارد البشرية، والكفاءات والخبرات التقنية، من مشارب تخصّصية متعددة، لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بمشروع ضخم، كمثل مشروع وحدة المدينة، لذلك، وحتى أكون منسجمًا مع المنهجية العلمية، هو بمثابة تصورات أو انطباعات شخصية لباحث متتبع، وليس تقييمًا لمعهد أو فريق عمل متعدّد الاختصاصات، ومتمتع بالوسائل المادية واللوجيستية كافة". واستطرد "يمكن القول بأنَّ تجربة 10 أعوام قد مكّنتنا من الحصول على نص جماعي متطور نسبيًا، وفيه من النصوص والمقتضيات ما يؤهل إلى تدبير جيد وعقلاني لمدننا، لاسيما أنَّ هذا النص، الذي عرف آخر تعديل له في عام 2009، قد أتى تتويجًا لاستشارات محلية ومركزية موسّعة، بين مختلف المتدخلين والفاعلين، وكان بمثابة ميثاق جماعي حقيقي، حظي بالتوافق، هذا على مستوى النص القانوني، أما بشأن المستوى العملي، فلا بد من التمييز فيه بين ثلاثة أبعاد". وأوضح أنَّ "البعد الأول، متعلق بالهيكلة الإدارية، وأقصد به الكيفية التي تمَّ اعتمادها لجمع شتات المدينة، التي كان تدبيرها موزعًا بين جماعات عدّة، وتوحيده في إطار مجلس جماعي واحد، يسهر على التدبير والتسيير وضمان التوازن بين المقاطعات التابعة، بالنسبة للمدن الست، التي طبق فيها نظام المقاطعات ومنها الدار البيضاء، وما يستتبع ذلك من جمع للمصالح والأقسام وتصور لاختصاصها، ثم إعادة انتشار التركة الكبيرة من جحافل الموظفين وتحديد مهامهم، وإعادة توزيع المرافق وتقليص العدد الفائض منها، واستحداث أخرى، وعلى هذا المستوى، أستطيع القول أنَّ البنيات الجماعية في هذه المدن، المؤسسة الإدارية القائمة ببنايتها وموظفيها، قد قطعت أشواطًا هامة في إقامتها، واستطاعت بذلك تجاوز مرحلة الارتباك، وبدأت بوادر استيعاب المواطن لطبيعة النظام الجديد، وآليات عمله، لاسيّما على مستوى المدن الموحدة، والتي لم يشملها نظام المقاطعات، كتطوان والقنيطرة وأغادير ومكناس ووجدة، حيث أخذ المواطن يلمس معالم هذه الوحدة بكل سهولة". وربط لبكر البعد الثاني مع العامل السيكولوجي الذي أثر بشكل سيء على المدبرين الجماعيين عند بداية تطبيق التجربة، حيث أنَّ العديد منهم، لاسيما رؤساء الجماعات، وجدوا صعوبة كبيرة في تقبل هذه النظام والتعامل معه إيجابيًا، إذ كيف مثلاً لرئيس جماعة كان يتمتع في ضوء النظام القديم بنفوذ، وله أهلية اتخاذ القرار، وتحمل مسؤولية صرف ميزانية ضخمة، يصبح مع النظام الجديد وكأنه ممثل ملحق لرئيس المجلس الجماعي الكبير، أو ما اصطلح عليه بـ"العمدة"، ودون صلاحيات حقيقية، أو ميزانية لاتخاذ قرار، والاستفادة من موقعه كرئيس. وبيّن أنَّ "هذا العامل ساهم في عدم انطلاقة التجربة بشكل جيد، لكن ما يجب إدراكه هو أنَّ نظام وحدة المدينة جاء لتجاوز هذه النظرة، واستبدالها برؤية شمولية موحدة، تنصهر فيها كل المكونات، علمًا أنَّ الميثاق ذاته فتح قنوات أخرى أمام رؤساء المقاطعات، للدفاع عن وجهات نظرهم، وإشراكهم في التدبير الحضري العام، أقلّها ندوة الرؤساء المفروضة، لمناقشة القضايا الكبرى للمدينة، وواقع كل المقاطعات". ويتعلق البعد الثالث أو الأخير بنتاج هذه التجربة، وانعكاسها الإيجابي على المواطن، موضحًا أنَّ "التجربة المقبلة ستكون هي البداية الحقيقية لتطبيق نظام وحدة المدينة، فإذا كانت هذه العشرية قد استغرقناها في وضع قطاع التدبير الجماعي على سكته، فإننا أضحينا الآن نتطلع إلى نتائج هذا البناء". وأكّد لبكر أنَّ ضعف التأهيل لدى الموظفين من الإشكالات التي يعرفها المغرب، ليس على مستوى التدبير الجماعي فقط، بل في كل القطاعات، مرجعًا ذلك إلى "ارتجالية وعشوائية سياسات التوظيف، التي عرفتها بلادنا في الأعوام الأخيرة، والتي كان من ثمارها وضع الشخص المناسب في المكان غير المناسب، والعكس صحيح، فضلاً عن ضعف الإمكانات المرصودة للتأهيل، والمنهجيات المتحكمة في وضع برامج التأهيل هاته، ومحتواها ومن المستهدف منها. وبشأن المستشارين، يعتقد أنَّ "الأمر يختلف، إذ ليس المفروض فيه أن يكون حاملاً لشهادة عليا، وتأهيل دقيق، بل الأساس أن يكون ذو حس سياسي، وإحساس بالمسؤولية، ورغبة في تقديم الصالح العام على المنافع الخاصة، هذا هو المبدأ، وعلى الأحزاب السياسية التي تمنح تزكياتها لمرشحيها تحمل مسؤولياتها في هذا الصدد". ويشهد لبكر، من خلال مشاركته في بعض الدورات التدريبية في المدن الست، التي طبق فيها نظام وحدة المدينة ذي الطابقين، "صادفنا مستشارين لهم دراية وإلمام بآليات التدبير، ومواد الميثاق الجديد، كما لهم تصور وحس نقدي واستعداد للتأقلم معه، ومن المؤكّد أنَّ فتح قنوات الحوار والتبادل سيرفع مع الزمن من مستوى الأداء ومنسوب المسؤولية، وينقص فقط، وهذا ما عبر عنه هؤلاء المستشارين ذاتهم، استعداد الرؤساء والمكاتب التي يسيرونها إلى توسيع هامش الثقة والشفافية، ونبذ التعصب والمحسوبية، التي تجعل بعض الرؤساء يلجؤون إلى تقريب المتعاطفين، وتهميش المنتقدين، ولو كان نقدهم ينبني على أسس صحيحة". وفي ختام حديثه إلى "المغرب اليوم"، أكّد لبكر أنّه يرى أنَّ الإسقاطات من بين الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى إحداث الشلّل في بعض المدن، مثل سلا ومراكش والدار البيضاء، وأنَّ تحميل المسؤولية للقانون وحده، حكم فيه كثير من التجني والتهرّب، المشكلة ذات طبيعة بشرية وأخلاقية وسياسية بالأساس، وما مشكلة المدن إلا إفراز جلي للأزمات التي تعيشها الأحزاب في المغرب.