آخر تحديث GMT 18:37:04
الدار البيضاء اليوم  -

عيسى مخلوف في ضفافه الأُخرى: سيرة الذات والآخر

الدار البيضاء اليوم  -

الدار البيضاء اليوم  - عيسى مخلوف في ضفافه الأُخرى: سيرة الذات والآخر

كتاب ضفاف أخرى
بقلم : دلال قنديل*

من يقرأ "ضفاف أخرى" يلمسُ سرّ عُمق المَدارك وابتعاد الكاتب عن المألوفِ من مبالغاتِ لغتنا والانبهار بالسائد. الشاعر والكاتب عيسى مخلوف يطلّ علينا بكتابه الجديد، مجيباً على أسئلة الشاعر العراقي علي محمود خضيّر، كمن يجمع حصادَ أيامٍ ويواصل الزرع.
الكتاب يتجاوز السيرة الذاتيّة ليصبح سيرة الآخر والعالم معاً، وليقدّم فصولاً من سيرة حياتنا والواقع الذي نعيش فيه. لذلك لا تأتي هذه السيرة لتستخلص مساراً وتجربة وإنما لتصبّ في خضمّ نتاج متواصل: مقالات ودراسات ومداخلات وكتب وترجمات وقراءات. نبعٌ معرفيٌ متنوّع ومتعدّد. وهو في ذلك ينحاز إلى الموضوعيّة والحسّ النقدي بلغة نلمس أناقتها وشفافيتها، وبحِرَفيّة العارف، بعيداً عن أيّ ادّعاء.
يكتمل النص بين سطور المراحل المنسابة زمنياً منذ الطفولة. أمّا المراهقة فحفلت بتجربة إنتاج مجلة ثقافية وتنظيم ندوات أدبية وترجمة قصائد منها قصيدة لبابلو نيرودا. كان بإمكان مخلوف ألاّ يعتمد على التسلسل الزمني في هذا النتاج طالما أنّ كلّ فصل من فصوله يؤلّف كتلة قائمة بذاتها تكشف عن غنى التجارب وموسوعيّتها وبعدِها الثقافي ذيّ الطابع الفكري والفلسفي.
يؤكّد هذا الكتاب على خصوصيةِ الكاتب من خلال إجاباته على أسئلة محفّزة جاءت مطوّلة في بعض مقاطعها. إجابات تزاوج، في مواضع كثيرة، بين النثر والشعر، مع التركيز على تحديات الواقع والمكاشفة التي تنطلق من الشكّ وإعادة النظر في المسلّمات والأفكار المسبقة. يقول: "حتى الآن لا تزال القوة هي التي تتحكّم في المصير، ولا نزال نشهد على عنف يأتي من عصور سحيقة على الرّغم من التقدّم الذي أحرزته البشريّة عبر الزّمن. كأن الحياة، لكي تبقى، لا بدّ من تآكل مستمرّ بين عناصرها ومكوّناتها. كأنها تأمرنا كلّ لحظة: ''فليأكل بعضُكم بعضاً''. ويضيف: "إنّ إستغلال الإنسان للإنسان واستغلاله للطبيعة لا حدود لهما".
في الفصل الأول يصف علاقته الأولى بالطبيعة: "المنحوتة الأولى التي رأيتها في حياتي ذلك الجبل في بلدة إهدن. لم يكن جداراً مغلقاً أمام عينَي الطّفل الذي كنتُ. كان مرآة ضخمة تعكس ألوان الشّروق والغروب. تتلوّن من الصباح الى المساء، ومن أول الليل حتى طلوع الفجر، بألوان فائقة الدّقّة في تدرّجاتها. يرتفع الجبل كموجة زرقاء عالية تحجب موجة أخرى زُرقتها أكثر تماهياً مع السّماء". ثمّ يتوقّف الكاتب عند لحظة مهمّة تركت أثرها في حياته تمثّلت في موت شقيقه وانعكاس هذا الموت على والدته التي تتفقد أنفاس أبنائها ليلاً لتتاكّد ممّا إذا كانوا لا يزالون أحياء، وكانت بذلك تخرّب، بدون دراية منها، نوم ابنها الذي كان لا يزال يومها في التاسعة من العمر.
من لبنان إلى فنزويلا، كانت الهجرة الأولى بسبب الحرب الأهلية، ومن كراكاس إلى باريس لمتابعة التحصيل العلمي. تجربة نلحظ أثرها في عمل مسرحيّ بعنوان "قدام باب السفارة"، وهو ينظر إلى الهجرة كونها "ملحمة يختلط فيها الواقع بالمتخيل، المأساة بالنزعة العبثية، وهي تعمّق السؤال حول قدرة الإنسان على مواجهة مصيره".
قراءة "ضفاف أخرى" رحلة في الزمان والمكان وفي الثقافات المختلفة. تجرّنا بشغف الى مراحل ثقافية متعدّدة المشارب، إلى شخصيات وقامات أدبية تابعنا نتاجها، ومنها الشاعر أنسي الحاج  الذي فقد والدته وهو طفل ما ترك عميق الأثر في نفسه، وحتى في علاقته بالمرأة والحبّ. في أحد الملاحق الثلاثة المثبتة في نهاية الكتاب، نسمع أنسي الحاج يقول: "أحياناً يخيّل إليّ أنّ الحب الذّي أكرّر وأعيد الكلام عليه هو غير الحبّ. هو ناتج سؤ تفاهم، بحث غامض في خضمّ أوقيانوس لا يعبأ. أي حب هذا الذي لا يتفق اثنان على تعريفه؟ هذا الذي يؤلم حتى الموت إذا تبودل ويؤلم حتى الموت إن لم يُتبادل؟". ومن لقاءات مخلوف في باريس، يستوقفنا لقاؤه مع محمود درويش الذي راح يقرأ في منزله قصيدته "الكمنجات"، ثمّ قصيدة "في الرحيل الأخير أحبك أكثر والكمنجات". تستوقفنا أيضاً العلاقة السجاليّة مع أدونيس، وحضور أسماء عدّة عربيّة وأجنبيّة من بينها محمّد أركون وعبد الرحمن الباشا وعبد اللطيف اللعبي وجورج شحادة وصلاح ستيتيّة وأسادور وبسّام حجّار وأمجد ناصر ونبيل الأظن، وأخيراً الشاعرة والفنانة التشكيلية إيتل عدنان: "المولودة في العام ١٩٢٥، المتربّعة على السنوات، لا تحصي الوقت، ولا تتذمّر من الأيام التي تمضي لأنها مأخوذة بشيء آخر: البحث عن جوهر الأشياء وعن سرّ الذات والكون. لكن هذا البحث الفلسفيّ والبحث الشّعريّ معاً لا يلهيانها، ولم يلهياها يوماً، عن أحوال العالم الراهن وقضاياه، وفي مقدّمها القضية الفلسطينية ووضع المرأة في العالم أجمع، وفي العالم العربي خصوصاً. مشغولة هذه النحلة برحيق الأزهار...".
بهذه العين الشفافة يمرّ عيسى مخلوف على صداقات ربطته بمبدعين. يستوقفنا أيضاً صقل الألوان بصمت وسط الصخب. يقول عن الفنان التشكيلي اسادور: "يعلو الصخب في مقهى''الفْلُور'' في حي ''سان جرمان''. تتردد أصداء الضحك في فضائه الدّافىء. رنين الكؤوس الحمر. دنوّها من شفاه النّساء المبتهجات أوّل السهرة، الشّفاه المنفرجة عن أسنان تزيدها الإضاءة لمعاناً. النُّدل، في وَزراتهم البِيضِ الطويلة، يروحون ويجيئون. في أيديهم الصواني المليئة والفارغة تتحرّك فوق الرّؤوس. رؤوس المقيمين في المدينة والغرباء الوافدين اليها بحثاً عن ذكريات، أو عن الطاولة التي جلس اليها، يوماً، إرنست همنغواي. أسادور القابع، كعادته، في إحدى الزوايا، لا دخل له بما يحصل حوله، بل إنه يبدو منزاحاً عن مكانه الذي لا وجود له خارج خطوط لوحته وألوانها. يأخذ قلماً من جيب سترته ويرسم خطّاً أوّل، يليه خطّ ثانٍ، على فوطة ورق أمامه على الطاولة. يرفع نظره عنها قليلاً، وسرعان ما يعود إليها كأنه يستنطقها. فهو لا يحتمل العيش بعيداً عن الأشكال التي ترتسم أمام عينيه، كالعنكبوت الذي لا بيت له خارج لُعابه. أسادور من قلّة من البشر الذين يمكننا، أثناء الالتقاء بهم، أن نتكلّم ونتحاور أو أن نبقى صامتين كأننا مع أنفسنا".
في موضع آخر من الملاحق، يعنون رسالته إلى صديقه عبّاس بيضون متحدّثاً عن الشعر، "الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات". وممّا ورد في الرسالة: "كلّما إلتقينا كان بسّام (الشاعر الراحل بسام حجار) حاضراً بيننا". ويتابع مخلوف مستعيداً حادثتين جمعتهما، هو وبيضون، في مناسبتين مختلفتين: "نظرتَ الى الجموع نظرتك المعهودة حين تبدأ الكلام كأنك تقرأ على لوح أسود. تتكلّم وتستطرد. تتدافع الكلمات أمامك كأمواج متلاحقة، تذوب الواحدة منها في الأخرى. كان نظركَ يذهب أحياناً أبعد من الحاضرين، نحو حديقة "لوكسمبور" الماثلة وراء مربّعات الزجاج. وكنت كأنك تروي للشجر والبشر على السواء ما حلَّ بالشِّعر". وعن بسّام حجّار يقول مخلوف: "إنه الغريب الذي تراءى له الشَّجَن في كل شيء حوله: الغيمة والشجرة، الأواني المنزلية والستائر، الشرفات التي لا تفضي الى شيء، وضؤ النهار، تلك العتمة الأخرى".
أما عن لقائه بالكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: "خرجتُ من الغرفة، وفي عينيّ عيناه المفتوحتان وتلك النظرة التي تذهب إلى الأمكنة التي لا تطاولها الأعين. ترافقني وأنا أسير في محاذاة "معهد الفنون" في اتجاه مقهى "بونابرت" تساؤلاته وعباراته التي لطالما ردّدها، قولاً وكتابة: "ماذا يمكن أن يحدث لنا أفضل من الزّوال والنسيان؟ ما همّني ما سيصير اليه إسمي طالما أنّ كتاباً في مستوى''ألف ليلة وليلة'' لا يُعرف من يكون كاتبه".
لا يتوقّف الكتاب فقط عند أوجه الثقافات المختلفة، بل يتناول أيضاً واقع العالم الراهن وتحدياته وما آلت إليه البيئة والهندسة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وأثر كلّ ذلك على الإنسان وعلى الإبداع. وهكذا يلازمنا الشعور بأنّ كل فصل من فصول الكتاب يصلح لأن يكون كتاباً.
لا يمكن لمن عَرفَ عيسى مخلوف الإنسان أن يفصلَ نتاجَه عن تلك الصورة المنحوتة بمعيار النقد الذاتي والتجرّوء على المحظورات. بعد متابعة عن بُعد لمقالاته الصحافية وبرنامجه الإذاعي الثقافي، وبعض نتاجه، التقيته في بيروت أثناء صدور الطبعة الثانية من كتابه "عين السراب" وأهداني نسخة منه، وتحسّرت على الزمن الذي فاتني قبل التواصل مع نتاج هذا الموسوعي الملهم ومساره الأدبي والإنساني الذي يقفز فوق الخلافات والأحقاد ليصوغ حياة تلامس زهد الفلاسفة وتغور في أسئلة التجربة المجدِّدة بلا قيود.
بقلم : دلال قنديل*

قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :

بيع مفتاح زنزانة نابليون بونابرت بـ92 ألف يورو

 

حفيد نابليون بونابرت يتزوج ابنة شقيقة زوجة الإمبراطور الفرنسي في حفل ضخم

casablancatoday
casablancatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عيسى مخلوف في ضفافه الأُخرى سيرة الذات والآخر عيسى مخلوف في ضفافه الأُخرى سيرة الذات والآخر



GMT 15:10 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

رئيس الرجاء يحاول اقتناص لاعبين أحرار بدون تعاقد

GMT 05:33 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن موقع هبوط يوليوس قيصر لغزو بريطانيا

GMT 09:33 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

عهد التميمي

GMT 10:19 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الروسي يعلن وصول أول كتيبة من سورية إلى موسكو

GMT 11:50 2016 الثلاثاء ,20 أيلول / سبتمبر

مقتل 4 من عناصر "بي كا كا" في قصف تركي شمالي العراق

GMT 06:09 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

8 معلومات مهمة عن "جسر العمالقة" تزيد الفضول لزيارته

GMT 17:21 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مدرب الأرجنتين يعلن عن تشكيلته لمواجهة البرازيل

GMT 00:21 2016 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

صحيفة بريطانية تكشف أفضل 10 فنادق في مدينة روما

GMT 22:46 2017 الخميس ,28 أيلول / سبتمبر

حسن الفد يعيد شخصية كبور من خلال عرضه " سكيتش"

GMT 16:29 2017 الثلاثاء ,03 كانون الثاني / يناير

2016 عام حافل بالأنشطة والعروض في الدار العراقية للأزياء

GMT 04:38 2015 الثلاثاء ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

مرضٌ خطير يصيب الأبقار ويعزل عشرات القرى في سطات

GMT 21:21 2015 الأربعاء ,11 آذار/ مارس

وفاة الممثل المسرحي المغربي إدريس الفيلالي

GMT 00:11 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تحف فنية من الزخارف الإسلامية على ورق الموز في الأردن
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca