آخر تحديث GMT 06:25:28
الدار البيضاء اليوم  -

هي والمستحيل

الدار البيضاء اليوم  -

الدار البيضاء اليوم  - هي والمستحيل

الكاتب صلاح أبوغالي
بقلم : صلاح أبوغالي

لم تكن تعلم فاتن وهي ابنة السادسة عشر أن حياتها الطفولية ، دلالها ، عُذوبة صوتها وشقاوتها ستنمو وتكبر وتصبح يوماً ما حياة أخرى بمعالم أخرى مغايرة وقد تبدَّلت من ربيع الطفولة إلى خريفٍ جاف غابت جمال الصورة فيه وشاهت واعتلاها الحزن وقد تبدَّلت من الابتسامة الرقيقة الدائمة ، وأخذت الدُّموع طريقها وقد رسمت أخاديد محفورة على خدَّيها بفعل التبديل وعوامل التعرية والزَّمن ..
عاشت فاتن حياة الرفاهية ، في عالم متمدِّن ، ملكة في بيت والدها ، وقد كانت هي آخر ما أنجبت والدتها "آخر العنقود" ، لم تطلب شيئاً إلا وكان والدها طوع البنان من شدة تعلُّقه بها وحبه لها ، إذا حزنت كان لا يكل ولا يمل إلا بعد أن ترضى ، وإذا مرضت لا ينام ليلته إلا وقد تعافت وعادت لشقاوتها من جديد ، إذا ضربها أو نهرها أحد أخوتها نال ما ناله من عقاب جراء فعلته وتعدِّيه على ملكة البيت المدللة الفاتنة ، زهرة العمر الذَابل وعصارة العمر الطويل ..
ذهبت فاتن إلى المدرسة الابتدائية فالإعدادية ، ومن ثم ترفَّعت كبنات جيلها إلى المدرسة الثانوية ، ولكن !! هنا توقَّفت عجلت الزَّمن ، ومات معه الطُّموح ، ورحلت الأمنيات ، فقد تقدَّم لخطبتها شاب ، من وجهة نظر عائلتها أنه مناسب ، ومن شدَّة خوف والدها عليها لرقتها وجمالها الفاتن وأنوثتها الطاغية ، وافق بلا تردُّد كي يحفظ جوهرته الثمينة في أيادي أمينة ، ترعاها وتحتويها ، في عالم مليء بالذئاب البشرية ، وانعدمت فيه المثل العليا وانهارت فيه مجموعة القيم المجتمعية بفعل الاحتلال وممارساته القذرة ، لم يكن بيد فاتن أيُّ حيلة ، فهي لا زالت طفلة بجسد فتاة مكتملة المعالم والانوثة ، ولكن !! عقلها وتفكيرها وأمنياتها وأحلامها جميعها طفولية ، وافقت رغم رفضها إعدام طفولتها وذبحها على مذبح العادات والتقاليد البالية لتستمر الحكاية .. 
من مدينة أخرى وعالم مختلف ابن المخيَّم كان هذا الشاب ، تزوَّجها ، رحل بها إلى عالمه المجهول لها ، طباعه مختلفة ، أسرة غير تلك الاسرة ، أفكار وآراء لم تجد فيها إلا روحٌ قد اختنقت وهي تصارعها وتقاومها ، فقد جاءت من مكان بعيد ، مختلف التكوين ، وانعدمت في حياتها الجديدة كل صور الدلال ، أطاح زوجها بمملكتها وتحوَّلت من ملكة إلى ربَّة بيت خادمة ومطيعة لرغبات زوجها وطلبات أسرته ، ومن غير المهم ماذا تريد هي ، وما هي أحاسيسها ومشاعرها ، ولم يسألها زوجها إذا كانت سعيدة وراضية بهذه الحياة ، وكيف يمكن أن يتكامل معها ويحتويها بكل ما فيها ، ولم يعرف كيف هي طريق الوصول إلى شغاف قلبها ليلتمس مكانه فيه ويملأ الفراغ الذي أحدثه غيابها عن أسرة طالما عاشت بين أحضانها ملكة زمانها ، كان زوجاً بمقاييس باقي الازواج ، الزوج الروتيني الطيِّب القلب ، ولكن !! لم يستطيع فهم هذه الفتاة ، ولم يتكامل مع أفكارها ورغباتها الدفينة في قلبها ، ولم يرقى لأن يتعايش مع مشاعرها الجيَّاشة ، وينقلها بالتدريج إلى عالمه الآخر ..
وبدأت مشكلات الحياة تعصف بأركان بيتها ، تارةً مع أفكاره الفوضوية من وجهة نظرها ، ومع أهواء ورغبات أسرته تارةً أخرى ، وهنا بدأ الصراع من أجل البقاء ، إلى أن بدأ الحزن يعبث في الصَّمت ويدُك جنبات قلبها بقوَّة ، ففرَّت بنفسها غاضبة إلى بيت والدها شاكية باكية سوء الحال ، وظلم العائلة الجديدة ، وجور الزمان ، فيأتي الوالد من عمله في المساء ، ليلومها على فعلتها ، ويطلب منها تبديل عقلها وأفكارها وإقناعها بأنه لا يجوز أن تترك بيت الزوجية بلا سبب ، وأن هذا يحدث مع كل الازواج ، وهي طبيعة الحياة ، وماذا سيقول الناس عنكِ وعنَّا ، لم نعرف كيف نربِّيك ، ونعلِّمك أصول الحياة ، ويأتي الزوج فيغادر بها إلى بيته مرَّة أخرى وكأنَّ شيئاً لم يحدث ، وتعود عجلة الحياة لتدور وتدور هي معها وتتوه في طيَّات الزَّمن بأمنياتها وأحلامها البريئة ..
يمرُّ العمر ، وتنجب فاتن وتصبح أمَّاً ولها أبناء وبنات ، وتتكرَّر معها المشكلات ، والأب يحاول جاهداً وبحب الاب الحاني على فلذة كبده أن يعيدها كالقطار لسكَّته لتنتظم في مسلك الحياة ، تطيعه عن حب وتعود ، وذات يوم تذهب فاتن لزيارة عائلتها ، وهذه المرَّة بدون غضب أو مشكلات ، هي زيارة عاديَّة من فتاة لعائلتها شوقاً لهم ، فتجد أمامها مشهداً لم تعهده من والدها الحنون ، شيئاً جديداً يختلف كل الاختلاف عن طباعه وعاداته ، كان الأب غضبان غضب شديد ، ويسب ويشتم ويضرب زوجته والدة فاتن ، وفاتن مصدومة من المشهد ، ولم تتوقَّع يوماً أن تراه على هذه الحالة ، غضبت فاتن لغضب والدتها وألمها من الضرب والشتم ، فما كان منها إلا أن ترفع صوتها فوق صوت أبيها وترد على بعض ألفاظه وكلماته ، والأب مذهول مما سمع ويرى ، فاتن ، تلك الحورية والملكة الفاتنة التي ربَّاها ودلَّلها ، وكانت ولا زالت جزءاً كبيراً من قلبه ، هي التي تصطف إلى جانب والدتها وتقف إلى جانبها وترفع من صوتها بغضب في وجهه ، لحظات تمُر ، فيصمت الوالد مذهولاً ويذهب إلى غرفته ويغلق على نفسه الباب ، ويصمت بذلك الجميع ، وكأنَّ الأصوات قد اختنقت أو أصبحوا فوق السَّحاب وانعدمت في المكان الجاذبية ..
تحاول فاتن في اليوم التالي استرضاءه ، وان تسلِّم عليه فيأبى ويشيح عنها بوجهه وعيناه مليئة بالدُّموع وترتسم على وجهه صُوَر الحزن ، ووجهه شاحب ، صامتٌ لا يتكلَّم مع أحد ، وتعود فاتن لبيت زوجها ويحذوها الأمل أن تعود في يوم آخر وتسترضيه وتقبِّل يديه وتطلب منه العفو والسماح .
أيَّام وتعود فاتن لزيارة أهلها وقلبها مليء بالأمل أن تجد نفسها تلك الفتاة المحبوبة والمدلَّلة وأن يستقبلها والدها بابتسامته وحنانه وقد تناسى ما كان منها ، ولكن !!
تصل فاتن وتجد بيتاً يلفُّه الحزن من كلِّ جانب ، بكاء وعويل ونحيب ، فتسأل ما بكم ، والجميع يرمقها بنظراته ، لقد رحل الحبيب ، رحل الحنون ، رحل ورحل كلُّ العالم معه ورحلت معه معالم الحياة .. لقد مات والدها وفارق الحياة ...
تبكي في صمت وذهول ، تلوم نفسها وتبكي وتبكي وتبكي ، حمَّلت نفسها المسؤولية عن موته ورحيله ، ظنَّت أن صراخها في وجه أبيها وحزنه هو سبب موته ومفارقته للحياة ، عادت لبيت زوجها ، وقد ماتت بداخلها كلُّ السعادة ، وكلُّ الطُّموحات ، وبدأت تتمنَّى الموت وتفارق راحلةً إلى عالم الأموات لتلتقي بوالدها هناك وتطلب منه أن يُسامحها ..
تناست فاتن أن والدها قد هرِم وأصبح كبيراً ومريضاً ، وأن العمر هو فقط بيد الله الواحد الخالق ، وان جميع الخلائق سترحل وتموت ، ولن يبقى إلا وجهه سبحانه الذي لا يرحل ولا يموت ..
وتستمر فاتن على هذه الحال ، تدور مع الحياة ، تنتظر النهاية ، تعبث مع المستحيل ، ورغم ذلك كان هناك شيئاً من التناقضات ، فهي لا زالت تبحث عن نفسها ، فقد قرَّرت تلك الحالمة ، الفاتنة ، رغم ما مرَّ بها أن تتعلَّم وتكمل مشوار تعليمها ، ورفعت من قدراتها وإمكاناتها حتى أصبحت مدرِّبة محترفة وتتبوَّأ عظيم المراكز في المجتمع ، ولكن !! لا تزال الطفلة بداخلها تصارع من أجل البقاء ، وتحقيق الذَات ، وتعويض ما فات ، وفي ركنٍ خفيِّ وفي زاوية من زوايا قلبها يسكن حلم بسيط ، أن تأتي النهاية أو ترحل هي لوالدها ، ولا زالت تطلب المستحيل ..
وبين هذه وتلك ، يدخل عالمها إنسان ، في برهة من زمن ، لم تتوقَّع أن تراه أو تعرفه أو تفهمه ، ولكنَّها سمحت له بالدخول ، استمعت له ، لأفكاره ، لآرائه ، أعجبها ذلك الرَّجل ، فلطالما كان هو من تريد ، هو من تتمنَّى ، ولكن !! عاجلها الزَّمن وسرق منها الأحلام والأمنيات ، ليعيدها إليها متأخرة كثيراً ، وبداخلها يحدث زلزال ، يهزُّ كيانها ، بدأت تصارع ذاتها ، تصدِّق ما يحدث أم تقاومه ، تبحث وتحلِّل ما يدور حولها ، هل هو فعلاً ذاك الرجل ، رجل الأحلام والأمنيات وما تتمنَّى ، أم هو شيئٌ من الخيال ، أو ومضة برق مرَّت وانتهت إلى زوال ، لا لا تحدِّث نفسها ، إنه واقع ، بل حقيقة ، إنه يتسلل إلى داخلي في صمت وفي رغبة مني ولا أقوى على الرفض ، لقد تملَّكني بكل ما بي ، سيطر على عقلي وتفكيري ، وقلبي ، ولا أرتاح إلا في الحديث معه ، ولا أستطيع أن أنام إلا مع آخر كلماته وعذوبة حروفه ، انسجم معه ، وأجد نفسي في حضوره ، وأشعر أنني ملكة من جديد ، أنثى لست كأي أنثى ، كيف لا وهو فارس الأحلام القريب البعيد ..
حاصرها ، عبث في مكنوناتها ، وضَّح لها الصورة وزيَّنها ، جمَّل التشوُّهات وأزال الحزن تارة بعد تارة ، وأصبحت تبحث عنه في كل لحظة وتطلب منه أن يكون معها ، وهو يطلب مطلبها ، تعاند مرَّات ، وتوافق أخرى ، تقاوم بداخلها ضعف الأنثى ، وترفض بكبرياء ، ولكنَّها تشعر برغبة جارفة أن يبقى بجانبها ويكمل معها الطريق لتنجو من حزنها العميق وتصل معه إلى شاطئ الأمنيات ..
قرَّر هو أن يبقى ، رفض رفضها ، قاوم مقاومتها ، عنيدٌ هو ولا يُقاوَم ، وهي لا تقوى على رفضه ورفض ما يطلب ، تراه دوماً حقيقة وعلى صواب ..
وتستمر الحياة ، وفاتن على حالها ، هل تُصدِّق صدقه ، هل تُكمل معه المشوار ، هل هو فعلاً ذاك الفارس الأبيض الذي ترجَّل عن جواده ليأتيها على أقدامه سيراً بحثيث الخُطا ، وفقط ليُحقِّق لها السعادة ..
وتتساءل فاتن لِمَ يحدث كلُّ ذلك ؟ ولِمَ يفعل هوَ ذلك ؟ وماذا وراء كلُّ ذلك ، تبحث بشغف ، تفكِّر بعمق ، سألته كثيراً ولكن دونما رد أو جواب ، وتناست وهي في غمرة تساؤلاتها ، مقولة الشاعر جبران خليل جبران :
خلفَ الاهتمام تختبئ كُلّ معاني الحُبّ ..
ليس كُلّ من قال أحبّك يهتمُّ لأمرك .. 
بل كُل مهتمّ بكَ .. ثق تماماً بأنّهُ يُحبّك ...
وتستمر فاتن على هذه الحال ولم تحصل منه على إجابة صريحة ، ولا تعلم إن كانت اقتنعت بكلماته " أن المستحيل هو طلب المستحيل " ، وأن الحياة مستمرَّة ، ولا تنتهي إلا بأمر الخالق وحده .

casablancatoday
casablancatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هي والمستحيل هي والمستحيل



GMT 07:16 2023 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

فلسطين والقدس الأبية

GMT 07:02 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 07:02 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 06:53 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء ( في رثاء أمي الراحلة)

GMT 13:53 2023 الأربعاء ,23 آب / أغسطس

سأغتال القصيد

GMT 10:26 2023 الإثنين ,10 تموز / يوليو

لن أرحلَ

GMT 12:08 2022 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 21:11 2022 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مسرح "الراويات" المنسي والمغيب

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 15:38 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

انفراجات ومصالحات خلال هذا الشهر

GMT 04:11 2016 الخميس ,20 تشرين الأول / أكتوبر

تقنية جديدة تظهر النصِّ المخفي في المخطوطات القديمة
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca