آخر تحديث GMT 06:25:28
الدار البيضاء اليوم  -

جلب الحبيب

الدار البيضاء اليوم  -

الدار البيضاء اليوم  - جلب الحبيب

ورقة وقلم
بقلم : ماهر طلبه

قال يعقوب ليوسف: أخفِ حُلمَك حتى لا يَقتلك.

 لكن إخوة يوسف كانوا دائمي التفتيش في ذاكرته ومذكراته وموبايله حتى عثروا بالصدفة أو بلعبة القدر الغادرة والتي يمارسها دائمًا الآلهة على الحُلم الجنين؛ فألقِيَ يوسف في البئر حتى يَغرق حُلمه.

***

أَخرجَ السقا يوسفَ من البئر ونسى حُلمَه فيه، وذهبَ به إلى عزيز مصر عارضًا بضاعتَه عليه، فضَمّه عزيز مصر إلى قصره خادمًا أمينًا.

***

ما كان يوسف دونَ حُلمِه ليصير خازن مصر، ولا كانت لتطمع فيه زليخة وتُقطَّع الأيدي من أجْله، لذلك كان دائمًا ما يذهب إلى بئره المذكور في القرآن كل صباح، يَنظر جثة حلمِه الملقاة في قاع البئر أمامَه، يسأل كل مَن يُلقي دلوَه فيه أن يساعده على انتشاله.. لكن مَن يرغب في الحصول على جثةٍ في بداية نهاره؟. لذلك كان لا يَلتفِت إليه أحد، ولذلك ظَل يوسف على جدار البئر مرسومًا تمثالا للحزن والآسى والأمل.

***

محصورًا ما بين الجنة والنار وقفَ يوسف.. "إنْ لم يفعل لأفعلن به".. احتار يوسف لكنه وجد الحل في المَعنى الساقط مِن عبارة أبيه عليه  "أخفِ حُلمَك".. فذهب إلى السجن بقدميه.

***

منذ أن اختفى يوسف وهى تَبحث، ليس في المكان والجغرافيا، لكن في الوجوه.. تحاول أن تجده ولو في نظرة عين، ابتسامةِ وجْه، لونِ  بشرة، اسودادِ شَعر، أو حتى في قامته الفارعة وهذا الجسد الذى أضاع برودتَها وأثار شهوتَها.. "لماذا تختفي كل هذه العلامات مِن أجساد الرجال الآخرين؟!.  لماذا خَصّه إله أبيه يعقوب بما لم يَنلْه رَجل في كل بَر مصر؟!".. الشهوة لم تنقطع، لكن غياب يوسف شغل البالَ عنها.. حتى ما عادت تستطيع أن تصِل إليه برغم بحثِها في كل ذكرياتها القديمة وفي الجثث الملقاة ليلَ نهار فوق سريرها البارد.

***

اليوم جاءه مَن حَلُمَ.. كانت الطيور تأكل مِن رأسه.. لم يَحزن يوسف.. هو يحِب الطيور، يعرف أنها المُسالِم الوحيد في هذا الكون، أنها ما كانت لتسرق الحُلمَ لولا الجوع.. لذلك تَعلَّق بها منذ صغره..

قال له: لكن ألَمَ النقرِ كان فظيعًا..

يَعرف يوسف.. ليس كاشفًا للغيب كيعقوب.. لكن فقط متذكرًا تلك المَخالب التي تعلقت بقميصه.. الجِلد وهو يُمزق ويَخْرج مخلبُها بالدم.. ذكرى الدم أنقذته مِن تخيلاته.. حين فاجَأه الآخر بأنه يعصر النبيذَ ويسقي منه.. تشاءمَ يوسف وندم أنه يعبر الرؤى.

***

"لولا أن رأى برهان ربه" مَزقتها العبارة، وضعَتها في مواجهةٍ مباشرة مع البرهان،  لو تأخر قليلا، لو أحكمت الجارية إغلاقَ الأبواب ، لو امتطته كما كانت تجيد امتطاء العبيد والجياد.. لكنه حَظّها العاثِر، والرب الذي عاد فجأة دون ميعاده اليومي.. كل شئ كان ضدها يومَها.. القميص المنفلِت مِن بين أظافرها.. هذه الرواية التي تَبنّاها الراوي وجعل منها قصة ليوسفَ ولها، الحُلم الذي ضرب رأس الملك فألزمها باعتراف سبَق أن روَّجت له مع كل مفردات الطبيعة، والجسد المُشْتَهِي والمُشتهَى.. كل شئ كان ضدها حتى النسوة اللاتي قَطّعن الأيدي فنزفت دماء الغَيرة من قلبها حتى جف وصار الارتواء هو أمله الأخير ليعود ينبض  بالحياة.

***

أكلت الطيور الرأسَ، ومر الشراب من فم ليَخْرج ماءً مالحًا.

**

ما كان بحاجة لأن يطلبها للشهادة، هى أنبأت الطرُقَ والحجارة، النهرَ والأشجار، الهواءَ العابر لحدود مصر والأزهارَ أنها عاشقة، وأن الغياب مثل الحضور وسيلة عذابٍ وشهوة وشوق.. لم يفاجئها حضورُه أمامَها ولا سؤالهم المفاجئ.. كانت تعلم أن شوقها وحبها سيتجسد في نهاية عذابها بشرًا سويًا، وأنها ستعيده كما فعلت مَن سبَقَتها وجمعتْ أجزاءَ حبيبها ومليكِها التي قُطّعت جثته – كما هى العادة - ووزِّعت في كل بَر مصر.. لذلك حين سُئلتْ أجابت.. حين اتهمت لم تبحث عن البراءة بل اشتاقت إلى الذنب مِن جديد... خرجت تجر مشاعرَها خلفها.. مختلطة، متناقضة كأنها تَخرج من قلوب متعددة وعقول عدة  لكنها تشتاق لجسدٍ واحد..

***

مَن مِنّا يملك الفأس كى يَقطع الرأس؟؟ الجوع الذي يضرب الأرض، الجفاف الذي يحلق بالسحاب.. الحُلم الذي كنت أظن أنِّي انتشلتُه من قاع البئر، فإذا بي أجففه وأقتله بالجلوس على الكرسي..

***

غابت عن الوعى منذ الظهور.. في المعبد، أمام محراب الآلهة، حيث الصدق التام والنقاء التام والأمان التام والحُب الذي ليس بعدَه حُب، حاولت أن تُخرِج هذه الفكرة المسيطرة، هذه الشهوةَ الجامحة القاتلة.. بكت كما لم تَبك حتى في غيابه.. ظنوا حين لمحوا الدموعَ أنها تَقَربٌ للآلهة، قربان للآلهة..  لكنهم واهِمون.. هى الآلهة فقط، ولآنها آلهة فقط  أدركت أنها دموع شوقٍ ورغبة، ولأنها آلهة فقط تركتها تبكي حتى تجف الدموع لكنها لم تُهْدِه إليها أبدًا..

***

وصلت العائلة إلى مصر.. نزل معها الغدر والخيانة يصاحبها كمصاحبة الدود للجثث المتعفنة.. "أنزلتهم مكانًا عليًا.. ركعت لي الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا.. نسيتُ أن أسأل أبي.. كيف خانت الإلهَ القدرةُ على الإشارة؟!!.. كيف للنجم المضئ أن يكون مَصدرًا لكل هذا الغدر والحقد الأسود؟!!".. لا بدّ أن الإله كان يقصد شيئًا آخر وأن يعقوب أخطأ تفسيرَ الحُلم.

***

عادت شابةً لم يمسسها بشرٌ سوِي، دماء الرغبة تجري في عروقها   كأنها نهر لا تجف مياهه.. تبحث عنه كحلمٍ في الكتب الصفراء، في الآيات البيّنات، في التاريخ الغابر، في الجثة التي جمَعتها في أحشائها وأخرجتها دون روح.. كيف عادت شابةً رغم كل هذا العفن، رغم كل هذا الحقد.. إنها إرادة الحياة، إرادة الإله.

***

صار كهلا، يبست الدماءُ في عروقه، تفرقت القبيلة بين قاتلٍ ومأجور، دُفِن يعقوب في مدافن الدماء.. الجوع الذي أجلسه على الكرسي زاد ولم يَقِل، لم يؤمِن القادمون أنه الأمل فانهار بنيان الكذب... وسقطت الكواكب والنجوم هامدة..!

casablancatoday
casablancatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جلب الحبيب جلب الحبيب



GMT 07:16 2023 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

فلسطين والقدس الأبية

GMT 07:02 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 07:02 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 06:53 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء ( في رثاء أمي الراحلة)

GMT 13:53 2023 الأربعاء ,23 آب / أغسطس

سأغتال القصيد

GMT 10:26 2023 الإثنين ,10 تموز / يوليو

لن أرحلَ

GMT 12:08 2022 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 21:11 2022 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مسرح "الراويات" المنسي والمغيب

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 08:12 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

أويلرز يفوز على مونتريال في دوري هوكي الجليد

GMT 05:03 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

شخص ملثم أضرم النار داخل مسجد فجر الاربعاء

GMT 17:08 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم" يكشف عن أجر "جون سينا" في" التجربة المكسيكية"

GMT 06:44 2018 الأربعاء ,26 أيلول / سبتمبر

"كالابريا" أحد كنوز إيطاليا الخفية عن أعين السائحين

GMT 01:14 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

مرتجي يؤكد استعداد الأهلي إلى "حدث تاريخي"
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca